بقلم : صابرين فرعون
تعمل الحرب على تهديد الإنسانية وإسقاطها وتحويل البشر لحيوانيين في تعاملاتهم ، يتخبطون في عمى الطمع والقتل والافتراس ، ولا تكتفي بالصراعات والنزاعات والانشقاقات وإنما جر الويلات ونشر الرعب والدمار على كل ما يتصدى لها وتطال الشجر والحجر ، وفك انصهارنا البشري مع الأم "الأرض" ، لذا يلتقط كل منا صورها بزاوية معينة ويناورها بطريقته ليوقف انتهاكاتها التي تتعدى أنفاق المعارك لخسائر الحيوات والاختلال في توازن الكونيات التي سُخّرت لخدمة الإنسانية وبناء الحضارات العريقة ..
مقاومة الموت بأنفاس الحياة وبث الأمل في واقع أفضل هي خطوات يراعيها من يدون مذكرات الحب والحرب ، يقتنص صورة اللحظة بكل ما فيها من ألم وفرح مزاوجاً الضدين في صراع الخير والشر ، يتشبث بكل احتمالية تضميد الجروح النازفة في عوالم اللغة ، هذه العوالم التي تُنضج الإدراك الحسي والحدس العقلي ..
يقوم د. موسى رحوم ببناء عوالم الكتابة معتمداً على ركيزة رومانسية وهي الطبيعة ، فنجد أنها تطغى على غالبية القصص في مجموعته القصصية ق.ق.ج "بروق على ثقوب سوداء" كمساحة مكانية وتوصيفات تركن لها النفس على امتداد النص ، هي مدخل ذهني لتجاوز الألم، تُحفز على رؤية المشهد ومحاكاته واقعياً باعتباره قضية وطنية عامة تمس الإنسانية والعروبة ..
يُلاحظ الهم الوطني بمشهده الدموي دلالياً ومعنوياً في النسج الكتابي ، فقد أكثر د.عباس من استخدام اللون الأحمر على سبيل المثال في قصصه ووظف عناوين القصص لتكون عتبات لا يمحوها الوقت لأنها من الحياة اليومية ..
كونه دكتور فلسفة لعلم النفس السريري ، تنعكس المسميات التي يوظفها لنسج أجواء النص، فهو يمزج العمليات العقلية كعمل العقل الباطن والخيال الأدبي في رسم الصورة بدقة كما في قصته "الزنزانة" لسحب الطاقة السلبية من روح السجين التي أنهكها التعذيب وتشذيب شعور الوحدة والغربة واعتياد أن الزنزانة تحتويه ويحتويها ..
عن أسلوب د.موسى ، اعتمد الرمز البسيط كما في قصص ، مثل "لامبيدوزا" ، "كاوى" و"هوملس" ووظف التشخيص والرمز الأسطوري والمفارقة ، كذلك اعتمد التكثيف السردي والتوصيف والتوفيق ما بين العنوان والخاتمة المدهشة للقصة ..
تنوعت مواضيع القصص وكلها كانت عن حياة السوري سواء في وطنه أو في المنفى والآثار النفسية للحرب على السوريين ، فهو يحكي عن الشاعر والمُهجَر والأسرة والأجيال والمُهرِب ومخيم الزعتري والزبّال والفنان والصحفي والمجنون "المُلا سعدون" والجبان والحارس والحكيم والعريس وحتى العنصر المكاني والحدودي للوطن كالخارطة والتراب ، هذه المفردات لها دلالاتها النفسية التي تنعكس في الوعي الكتابي ..
هناك ثقافة عالية تظهر من خلال التأثر بالقرآن الكريم كما في قصتيّ "كرامة" ، "طقس" ، والاهتمام بالشعر العربي القديم والمعاصر والتأثر بامرئ القيس والنابغة الذبياني والصعاليك وأمل دنقل ...
يؤسس د.عباس لأبعاد إنسانية عميقة في كل ما يكتب ، فهو يجد فيها متنفساً ومهرباً من الغربة والألم ..
يحمل عنوان المجموعة القصصية عنوان إحدى القصص التي احتوت على شرح علمي للثقب الأسود والتي شبه كل الفجوات التي سببتها الحرب به ولكنها مجموعة من الثقوب السوداء تجذبه للشرق بأصالته ..
د.موسى رحوم عباس شاعر وروائي وقاص سوري ، يحمل شهادة دكتوراه فلسفة في علم النفس العيادي "السريري" وحاصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب ، صدر له : "الآفلون" شعر ،"بيلان" رواية ، "اضطراب ما بعد الصدمة .. دليل إجرائي للتعامل مع ضحايا الحرب" دراسة ، "الوسواس القهري .. ماهيته، أسبابه ، علاجه" دراسة، "فبصرك اليوم حديد" شعر ، "بروق على ثقوب سوداء" مجموعة قصصية ق.ق.ج ، الإصدارات الثلاث الأخيرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع ..