المتوقع أن العلماء ينالون الجوائز في سن متأخرة؛ لكن «نوبل» قد فتحت أبوابها لأعمار أصغر لدخول ميدان التنافس الدولي. ولو أجرينا التحليل نفسه على الموهوبين والمبتكرين والمبدعين، لكانت النتيجة أكبر لصالح كفة الشباب في عصرنا.
فعلتُ الأمر نفسه في الكويت على من نطلق عليهم «الرعيل الأول» الذي بنوا بسواعدهم أول دستور في الخليج، وأول برلمان (مجلس الأمة)، وساهموا في بناء الدولة الحديثة. والمفاجأة أن معدل أعمار نصف الوزراء والنواب في المجلس التأسيسي كان في سن الثلاثينات، في دولة أصبحت في عهدهم أيقونة للتمدن والعلم والصحة والرياضة والأناقة والبنية التحتية. نشرت لي جريدة «القبس» نتائج ذلك التحليل في صدر صفحتها الأولى، عبر عشقي الأبدي «الفيتشر الصحافي»، وذلك حينما كنت صحافياً متعاوناً فيها لنحو عشرين عاماً.
ذكرتُ ذلك في كلمتي التي ألقيتها في اجتماع القيادات الشابة في دبي، على هامش القمة العالمية للحكومات، وأضفت أن الروائي نجيب محفوظ كان خير مثال على من أحسن استثمار شبابه، ثم نال جائزة «نوبل» بعد نشر 50 رواية، خلال خمسة عقود. فكان يسمى «الرجل الساعة»، وقد خشي عليه الأديب جمال الغيطاني من الاغتيال لشدة انضباطه. فكان يكتب ويقرأ منذ عنفوان شبابه لنحو أربعة أيام فقط: ثلاث ساعات يومياً للقراءة، ومثلها للكتابة، وكان لا يكمل الجار والمجرور إذا انتهى الوقت المحدد. يقول الغيطاني: «كنت أنتظر عند باب العمارة في الساعة 5.55 مساء، وفي تمام السادسة يخرج من بابها في دقة عجيبة ومستمرة. فقد كان يتندر عليه أصحابه في المقهى؛ حيث يقف فور انتهاء الساعتين المخصصتين لمكانه المفضل». ومع ذلك كان يتمتع ثلاثة أيام أسبوعياً مع أهله وأصحابه، فلا يكتب فيها شيئاً. ويأخذ نقاهة صيفية من الكتابة لثلاثة شهور. وشاركه شاب آخر آنذاك لم يهدر شبابه على قارعة الطرقات، وهو السعودي الدكتور غازي القصيبي الذي كان منضبطاً إلى أبعد الحدود، بنظام يشبه نجيب محفوظ؛ لكن ذلك لم يمنعه من استثمار شبابه في أن يصبح روائياً وشاعراً وعميداً، ثم وزيراً في الحكومة، وسفيراً في لندن. وقد قال كلمته المشهورة: «إن الأدباء الموظفين أكثر إنتاجاً من المتفرغين». وهو كلام وجيه؛ لأن الإنسان الطموح يضطر أمام ضغط العمل إلى حسن ترتيب أولوياته، فينجز أكثر ممن يتمتع ببحبوحة من الوقت.
وكنت دائماً ما أتخيل ماذا سيكون شكل العالم، لو تخلى الشباب عن جدهم واجتهادهم؟ فلو أهدر الخوارزمي ريعان شبابه في التوافه لما صرنا نتمتع بالإنترنت ومحركاته الخوارزمية وذكائه الصناعي. ولما كان لدينا هاتف، ولا سفينة، ولا طائرة، ولما كانت لدينا الكاميرا التي اكتشف بواكيرها ابن الهيثم، عبر معرفة انعكاسات الضوء على العين وأساسيات العدسة. ولو تبع بيل غيتس صديقه وارن بافت في مجال الاستثمار بدلاً من مجازفة الابتكار، لتأخرنا في اكتشاف «الكومبيوتر» بأيقوناته الفريدة، بعد حقبة «الدوز» ذات الشاشة السوداء الرتيبة، ولربما كان عالمنا شيئاً مختلفاً، وربما بدائياً.
كل ما نشاهده من ركام المعرفة، والابتكارات، والإبداعات، كان وراءها أفراد استثمروا زهرة شبابهم فيما ينفعهم ويرفع شأن أمتهم. فإذا ما أردت معرفة مستقبل أمة، فانظر فيما يقضي فيه شبابها أوقاتهم! «فالشباب هم عماد المستقبل».