الإرث الموبوء لمراكز الدراسات
في جولاتها التفاوضية التي تجريها مؤسسات الدعم والتمويل الأجنبي مع منظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات، قبل إقرارها الموافقة على تمويل مشروع معين، لم تعد تلك المؤسسات تقصر أسئلتها واستفساراتها حول نوعية النشاط، وعدد الحضور، ودور مدير المشروع، ونوعية الدراسة، او مكان عقد النشاط، وهي أسئلة طبيعية، اعتاد، بل تمرس على الإجابة عليها معظم مراكز الدراسات.
بل لاحظنا في الآونة الأخيرة تغير نوعية الاستفسارات والتساؤلات التي تطرحها الجهات التمويلية، فلا عجب من أن تجد سؤالا مفاجئا عن شكل اليافطة التي ستستخدمها في الورشة او الندوة التي تنوي عقدها، وحجم اليافطة، وألوانها، ونوعية القماش المصنوعة منه! الى جانب السؤال عن المادة التدريبية التي ستستخدمها في ورشتك التدريبية، من حيث عدد صفحات الدليل التدريبي، وألوانه، وسمك الصفحة ونوعية الغلاف، وعدد غراماته، وألوانه!
كما قد تفاجأ بسؤال مبكر عن أسماء المدربين الذين ستتعاقد معهم بعد سنة من تاريخه، وسيرهم الذاتية، وأسماء حضور الفعالية التي ستقام بعد سنة، ونوعية السيارة التي ستستقلها لحضور ورشة معينة في المحافظات، وموديلها وسنة صنعها!! .. وسيل من الأسئلة التفصيلية.
قد نعجب من تفصيل هذه الأسئلة ودقة الإجابات التي تطلبها الجهات التمويلية عليها، وقد يستاء البعض من ذلك، مفسرا اياه بروح "التشكيك" الذي يحيط طابع تلك الاستفسارات، في حين يتثاقل البعض الآخر من حجم التفصيل المطلوب، وقد ينسحب البعض من استكمال جولات المفاوضات مع الممولين لعدم استعداده المسبق في الإحاطة بكل الجوانب الدقيقة التي يسألون عنها، خاصة وأن المشروع ما زال "فكرة" على الورق.
ترى ما الذي جعل الجهات التمويلية الأجنبية تنتهج هذا المنحى في تفاوضها حول المشاريع مع مراكز الدراسات؟
لست هنا بمعرض الدفاع عن القائمين على مؤسسات التمويل الأجنبي ولا الادعاء بالنزاهة المطلقة داخل أروقة هذه المؤسسات ولا الشفافية التامة في إداراتها التمويلية، لكن أكاد أجزم وبشيء من الخبرة ليست بالقصيرة في عالم مراكز الدراسات وعالم مؤسسات التمويل الأجنبي، ان مستوى التفصيل المذكور أعلاه لم يكن مطروحا بهذه الدرجة قبل فقط سنتين من الآن.
إذن لا بد من التكهن وبقليل من المنطق، ان ثمة سلوكيات معينة من جانب بعض مراكز الدراسات هي التي زرعت هذا الحذر والحرص والاحتياط وربما التشكيك لدى المؤسسات التمويلية.
ولعل السلوكيات كثيرة والممارسات متنوعة، وأحيانا مبتكرة من جانب مراكز الدراسات، فترى الفواتير تُصرف باسم الفنادق والمطابع وتصدر عنها وعلى ورقها الرسمي المروّس، والإيصالات تصدّر باسم الباحثين والمترجمين، وتلصق التواقيع والأختام عليها، وكله بفضل البرنامج المنقذ المسمى "الفوتوشوب".
كما ترى النشاطات الوهمية التي تعقد على الورق فقط، وترسل صورها مظهرة المتحدثين والمشاركين الى الجهات التمويلية، ايضا بفضل "الفوتوشوب"؛ وللعلم، فهذا البرنامج يتيح نقل صورة الشخص الذي يمشي على شاطئ في احدى جزر الهاواي ووضعه كمتحدث في احدى المؤتمرات الوهمية، مع وضع خلفية تبين يافطة أي فندق فخم حتى يبرر المركز أخذه عشرات الآلاف على عقد النشاط.
ولا تعجب ان يقوم مركز الدراسات بطبع النشرة او المجلة ورقيا وداخل المركز نفسه، بثلاث نسخ فقط بدلا من ألف نسخة، وهي عينة النسخ الثلاث التي يجب إرسالها الى الممول؛ كما تُعدل أرقام المبالغ على الكشوفات البنكية ايضا بالـ "سكانر" والفوتوشوب، لكي لا تظهر الأرقام الحقيقية في السحب والتمويل... وغيرها الكثير من الممارسات.
ما يثير الاستياء الحقيقي هو ان الكثير من الجيل السابق من هذه المراكز البحثية وُجدت أصلا تحت شعار مراقبة الفساد، ومحاسبة المسؤولين، ومساءلة المفسدين، وتحولت مع الزمن الى جهات مبتدعة للمارسات الفاسدة، فكانت النتيجة انه كما يقول المثل "ذهب الصالح مع الطالح"، وأصبح ينظر الى مراكز الدراسات ومنظمات المجتمع المدني بشكل عام، على انها مرتزقة وباحثة عن الثروات السريعة، ومصدر اكتناز واغتناء مؤسسيها، الذين كوّن بعضهم بالفعل الثروات الطائلة واقتنوا الفلل في عبدون والسيارات والسفرات والحياة البرجوازية الترفية من وراء التمويل الأجنبي وتحت الشعارات الزائفة اياها.
الجديد في الموضوع ان الجهات التمويلية بدأت تفتح أعينها مؤخرا على هؤلاء، وتفتح الملفات، وبدأت تنتقي وتغربل في اختيارها لشركائها، فتبقي على المراكز التي عملت بنزاهة لسنوات وراكمت السجلات المالية النظيفة وتركت البصمات المؤثرة، وحملت رسالة وطنية ظلت مدافعة عنها حتى لو أنفقت عليها من جيبها الخاص، وتقصي البعض الآخر الذي للأسف، زرع إرثا موبوءا في ساحة مراكز الدراسات؛ إرثا بحاجة الى أجيال متعددة من المراكز النزيهة لكي تزيل وباءه.
* مديرة مركز بصر لدراسات المجتمع المدني