كيف دمّرت حلب
اختلفت وجهات النظرحول اسم حلب حيث أن البعض عزا الاسم إلى تعريب كلمة حلبا السريانية التي تعني البيضاء, بينما قال البعض بأن لفظة حلب آرامية وأن الآشوريين والمصريين الأقدمين سموها حلبو, بينما ذكر أحد مؤرخي المدينة وهو خير الدين الأسدي أن أصل كلمة حلب يعود إلى حَلْ رب فيقال حَلْ لَب حيث أن معنى كلمة حَلْ هو المحل وكلمة لَبْ هو التجمع فيصبح معنى كلمة حلب هو موضع التجمع, أما لفظة الشهباء ففسرها البعض بأنها من الشهب وهو البياض يتخلله السواد ، حيث لقبت بهذا اللقب لبياض تربتها وحجارتها.
ولم يتطرق علماء الآثار إلى حلب من قبل ، حيث أن المدينة الحديثة تحتل ذات الموقع الذي كانت تحتله المدينة القديمة ، وقد أظهرت الحفريات في تل السودا أن المدينة احتلت هذا الموقع منذ حوالي الـ 5000 سنة.
فتحت مدينة حلب بقيادة خالد بن الوليد عام 637 م، لتشكل جزءاً من الدولة الأموية ومن بعدها العباسية، وفي عام 944 غدت عاصمة الدولة الحمدانية تحت حكم سيف الدولة الحمداني، عاشت المدينة عصراً ذهبياً أيام الأمير سيف الدولة وكانت أحد الثغور الهامة للدفاع عن العالم الإسلامي في وجه المد البيزنطي، احتلت المدينة لفترة قصيرة بين عامي 974 و 987، أثناء الصراع البيزنطي السلجوقي، تمت محاصرة حلب أيضاً مرتين أثناء الحروب الصليبية عامي 1098 و 1124 إلا أن الجيوش الصليبية لم تتمكن من احتلالها لمناعة تحصينها, وفي عام 1138تعرضت المدينة لزلزال مدمرٍ دمرها والمناطق المحيطة، ويصنف على أنه الزلزال الخامس من بين الزلازل التاريخة الأشد دماراً في العصور القديمة.
وقد انضوت المدينة تحت حكم صلاح الدين في عهد الدولة الأيوبية ، كما تم احتلال المدينة من قبل المغول تحت قيادة هولاكو بالتعاون مع حاكم أنطاكية بوهيموند السادس، دافعت عن المدينة حامية متواضعة من قبل الملك الأيوبي غياث الدين طوران شاه وسقطت المدينة بعد 6 أيامٍ من القصف المستمر بالمنجنيقات، وسقطت القلعة بعدها ب 4 أسابيع، تم ذبح السكان بوحشية, وتابع بعدها الجيش المغولي تقدمه نحو دمشق ليحاصرها ويقتحمها هي الأخرى عام 1260, استعاد المملوكيون زمام المبادرة بعد انتصارهم في موقعة عين جالوت عام 1260 بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز ويتم قتل القائد كتبغا الموالي لهولاكو، ولتتم استعادة دمشق بعدها بخمسة أيام وحلب بعدها بشهر.
استقلت حلب عن الدولة المملوكية المركزية في القاهرة عندما قام الملك الظاهر بيبرس المملوكي بإعلان الانفصال، وأرسل قواته في عام 1261 لاستعادة المدينة. في تشرين الأول لعام 1271 هاجم المغول مرةً أخرى حلب بجيشٍ يضم عشرة آلاف فارس قادمين من الأناضول بعد هزيمتهم للتركمان الذين حاولوا المساعدة في حماية المدينة، ونجحوا في احتلالها وتقدموا نحو حماه، لكن الظاهر بيبرس أعد جيشاً قويا تمكن من إجبار المغول على الجلاء عن حلب مرة أخرى, استولى المغول مجدداً على المدينةعام 1280 وعاثوا فيها فساداً وتدميراً في الجوامع والأسواق، وهرب السكان نحو دمشق، ليقوم القائد المملوكي سيف الدين قلاوون بتجهيز قواته للرد، وما إن رأى المغول الجحافل تتقدم حتى تراجعو هرباً إلى ما بعد نهر الفرات.
عادت حلب للحكم الذاتي عام 1317، وفي عام 1400 قام القائد المغولي تيمورلنك بأسر المدينة وذبح الكثير من السكان ويقال بأنه أمر ببناء تلة من جماجم السكان استخدم فيها 20000 ألف جمجمة ، وبعد تراجع المغوليين، عاد السكان المسلمون خاصةً ليحتموا في المدينة، أما المسيحيون فقد قام بعضهم ممن لم يستطيعوا الدخول مرة أخرى بإنشاء حي جديد عام 1420 خارج حدود السور الشمالي تم تسميته بالحي الجديد أو الجديدة. ولعبوا دور همزة الوصل في التجارة بين تجار حلب والمحيط الخارجي لتمتعهم بحماية نسبية من قبل الممالك الصليبية في القدس وانطاكية.
كانت مدينة حلب حاويةً لتعداد هام من اليهود أيضاً في العصور القديمة, وتحوي معبداً يهودياً بني في القرن الخامس الميلادي، كانت أحياء اليهود التقليدية تشمل أحياء الجميلية، باب النصر، والمناطق المجاورة للمعبد, ثم بدأت موجات هجرة تظهر بعد اعلان قيام دولة إسرائيل من طرف واحد من قبل المهاجرين اليهود الأوروبيين ومع تواطؤ كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية عام 1968، كان لا يزال يقطن مدينة حلب أكثر من 700 يهودي على الأقل , وقد حاولت الحكومة السورية بداية الحفاظ على الرعايااليهود ،وقد ظلت أملاك اليهود غير مسكونة حتى بعد هجرتهم ،إذ تركت الحكومة السورية حجوزاتها على المساكن شريطة أن لا يهاجر الرعايا اليهود السوريون إلى أراضي الكيان الإسرائيلي, إلا أن معظم اليهود قد هاجروا بدايةً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليشكلوا جالية معتبرة في بروكلين - نيويورك بشكل أساسي، أما البقية فقد غادروها في النهاية وتوجهوا إلى إسرائيل.
أضحت حلب جزءاً من الدولة العثمانية عام 1516، وكان تعداد السكان حوالي 50000 نسمة، وكانت مركز ولاية حلب وعاصمة سوريا , نظراً لموقعها الاستراتيجي القريب من الأناضول، لعبت حلب دوراً محورياً في الدولة العثمانية، وكانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية ،والمدينة الرئيسة للتجارة بين بلاد الشرق والغرب و كانت المهام القنصلية الرئيسية تتم في حلب .
استمرت المدينة تحت الحكم العثماني حتى انهيار الإمبراطورية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حددت معاهدة سيفر مقاطعة حلب كجزء من سوريا، لكن مصطفى كمال أتاتورك رفض هذه المعاهدة واستمر بضم حلب والأناضول وأرمينيا إلى تركيا وخاض حروباً لاستقلال التراب التركي، وقد دعم السكان العرب والأكراد في المدينة النضال التركي بدايةً ضد الفرنسيين باعتقادهم أنه سيجلب لهم الاستقلال ومن أشهرهم إبراهيم هنانو الذي قام بالتنسيق في فترة من الفترات مع كمال أتاتورك، لكن النهاية جاءت كارثية على حلب، فمع عقد معاهدة لوزان تم انتزاع معظم مقاطعة حلب باستثناء حلب نفسها ولواء الاسكندرونة، وهكذا تم سلخ حلب عن الأناضول ومدنه التي كانت تضمها علاقات تجارية مكثفة، الأسوأ من ذلك، كانت معاهدة سايكس - بيكو التي قسمت بلاد الشام وفصلتها عن العراق, وزادت عزلة حلب أكثر بعد أن تم أيضاً سلخ لواء الاسكندرونة عام 1939 فتم حرمان حلب من مينائها الرئيسي ليجعلها معزولة تماماً.
وقامت فرنسا حينها باقتراح قيام فيدرالية ولايات سوريا عام 1923 (بما فيها ولاية لبنان)، ليتم في النهاية ضم ولاياتٍ ثلاث، ولاية حلب ودمشق واللاذقية، تم تحديد حلب كعاصمةٍ بداية، ثم ما لبثت أن أعيدت إلى دمشق، وكان رئيس الفيدرالية هو السيد صبحي بركات من مواليد مدينة حلب, تم إيقاف العمل بالفيدرالية عام 1924 عندما قامت فرنسا ولنفس أسباب التفرقة بفصل حلب ودمشق في ولاية وجعل ولاية اللاذقية ولاية منفصلةً للعلويين بعد أن استشعر الفرنسيون خطر نزعة استقلالية بعد فترةٍ من اتحاد الولايات الثلاث, وبعد هذا بقليل في عام 1925 قامت في السويداء جبل الدروز الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، أرادت فرنسا الرد على السوريين فأوعزت إلى البرلمان الحلبي (وكان جلّ أعضائه من الموالين لها) بالانعقاد وإعلان الانفصال عن دمشق, ولكن الوطنيين في حلب بقيادة إبراهيم هنانو ثاروا بقوة وأحبطوا المشروع الفرنسي بعد أن قاموا بالاحتجاجات والتظاهرات وقاموا بقطع الطرق المؤدية إلى البرلمان يوم التصويت لمنع أعضائه من الوصول والتصويت على قرارهم المتوقع, وفي عام 1930 كانت حلب جزءاً من الجمهورية السورية، وفي عام 1936 تم توقيع معاهدة الاستقلال مع فرنسا وقيام حكومة الملك فيصل، ونالت حلب استقلالها كجزء من سوريا مجدداً في عام 1946 بعد أن قامت حكومة فيشي الفرنسية بنقض المعاهدة السابقة واعادة احتلال سوريا عام 1941.
شاركت حلب بقوة في الحياة السياسية ما بعد الاستقلال، فكان أول رئيس حكومة وطنية من حلب وهو سعد الله الجابري وبعد فترة تبعه ناظم القدسي ومعروف الدواليبي وأخر رئيس حكومة من مدينة حلب كان محمد ناجي عطري, والحلبي الوحيد الذي وصل إلى منصب رئيس الجمهورية هو أمين الحافظ بدعم من حزب البعث عام 1963, كما نشأ في حلب عدة حركات مثلاً حزب الشعب عام 1948 بقيادة رشدي كيخيا وناظم القدسي والذي اتخذ من مدينة حلب مقراً رئيساً له, كما تاسست فيها حركة الإخوان المسلمون في سوريا في عام 1937،عانت المدينة من نزاع مسلح بين حركة الأخوان المسلمين والحكومة السورية بين عامي 1979 و1982 ويعتقد بأنها ثاني مدينة سقط فيها قتلى صمن هذا النزاع بعد حماة.
شهدت المدينة عدداً من الأحداث بعدَ اندلاع حركة الاحتجاجات السورية 2011، فقد خرجت أول مظاهرة مناهضة لنظام الأسد وحزب البعث فيها في "جمعة العزة" بتاريخ 25 مارس 2011، ثمَّ أصبحت المظاهرات فيها حدثاً شبه أسبوعيّ أو حتى يومي، وأخذت بالتوسع شيئاً فشيئاً، ولو أنها لم تصل إلى قوة حركة الاحتجاجات في باقي مناطق سوريا, كما أطلقت تنسيقيات الاحتجاجات عام 2011 عُنوان "بركان حلب" على يوم الخميس ذاك في مُحاولة لتأجيج المُظاهرات في المدينة أكثر، وأدى ذلك إلى خروج المظاهرات في أكثر من عشرة مناطق في المدينة وحُدوث محاولات للاعتصام في ساحة سعد الله الجابري الرئيسية بها، كما سقط قتيل خلال تلك المسيرات, وكذلك في عام 2011 خرجت مظاهرات ضخمة في المدينة هي الأولى من نوعها تحت شعار "جمعة لن نركع إلا لله"، وبسبب هذا أطلق الأمن النار على المُحتجين فسقطَ 3 قتلى في حيّ الصاخور، وأدى ذلك تأجيج المظاهرات به أكثر وأكثر, و تكرَّرت محاولات مُشابهة لتحريك المدينة بعدَ إطلاق شعار "أربعاء بدر حلب" على ذلك اليوم، وأدى ذلك إلى خروج مظاهرات ضخمة مشابهة للتي خرجت يوم بركان حلب ووصل خلالها الثوار إلى ساحة سعد الله الجابري في قلب المدينة،وكذلك خرجت مظاهرة كبيرة ضد النظام من الجامع الأموي وذلك في تشييع مفتي حلب إبراهيم السلقيني الذي كان قد توفي قبلها بيوم، ويَقول معارضون للنظام أن المخابرات السورية هي التي قتلته، وذلك إثر موقفه المؤيد للثورة السورية.
ومنذ بداية عام 2012 أصبحت المظاهرات السلمية ضد النظام حاشدة ويومية في حلب وتركزت في عدة احياء مثل صلاح الدين والسكري وبستان القصر والجامعة وغيرها، وكان يسقط عشرات القتلى من جمعة إلى جمعة في هذه المظاهرات، وقد اندلعت اشتباكات مسلحة عنيفة داخل المدينة بين الجيش السوري الحر وقوات النظام في ما عرف لاحقا بمعركة حلب، من ثم بدا الجيش السوري قصفه العنيف على احياء في المدينة، وقد أدى هذا القصف لمقتل أكثر من 4000 شخص بعد أشهر من المعارك معظمهم مدنيون كما ذكرت الامم المتحدة ان أكثر من 200 الف شخص فروا من حلب منذ بدا المعارك فيها .
وقد سيطرت المعارضة على اجزاء كبيرة من القسم الشرقي للمدينة وانشاوا فيه وحدات إدارية وقضائيّة وغيرها لخدمة الأهالي هناك وكانت تصدر احكاما وتعاقب المخالفين والمحكومين لعدّة اعوام كما استولت ما عرف بالنصرة على اجزاء من ضواحي المدينة .
وقد استنجد النظام بالقوات الروسيّة وخاصّة سلاح الجو وعناصر حزب الله وغيرهم لمحاربة المعارضة واي عناصر مسلّحة اخرى في الوقت الذي رفضت امريكا وحلفائها الأوروبيِّن تزويد المعارضة بمدافع مضاضّة للطائرات او اسلحة ثقيلة بحجّة خوفها من ان تقع بيد منظّمات مسلّحة معادية للأمريكان بينما في الواقع كان هدف الأمريكان وغيرهم من المعادين للعرب والعروبة هو انهاك الجيش السوري بكافّة عناصره الموالية والمعارضة وتدمير البنية الأساسية في سوريا قدر الإمكان وقتل اكبر عدد من الشعب السوري .
ونظرا للفرق في ميزان القوى فقد تمكّن النظام بانصاره من روس وغيرهم من هزيمة المعارضة واخرجوا آخر حوالي ثلاثة الآف مقاتل والعائلات المدنيِّة الى مناطق خارج حلب .
غالبية سكان حلب هم العرب و اقلية من الأكراد والأرمن والشركس والتركمان وغيرهم وتتجانس فيها الإثنيات والأديان منذ القدم لتتمتع المدينة بالتنوع والمشاركة والتعاون بين كافة الأعراق والطوائف من السكان بشكل رائع وجميل يعتبر مضرباً للمثل في الشرق الأوسط.
تقريبا 85% من سكان حلب هم من المسلمين السنة العرب، وسكان حلب من الديانة المسيحية هم التجمع الثاني من حيث الحجم بعد مدينة بيروت في المنطقة، وتحتضن حلب بين جنباتها اكثر من 45 كنيسة أو مبنى كنسي تنتمي للطوائف المتنوعة فهناك السريان واللاتين والمارونيين والكاثوليك والأورثودوكس والكلدانيين يتعايشون جميعاً في جو من الود والإخاء، تاريخياً قطن المسيحيون في أحياء معروفة مثل الجديدة والعزيزية والسليمانية، محطة بغداد، العروبة والميدان, وإن بدأوا بالانتشار خارج هذه الأحياء التقليدية مع ازدياد عدد السكان وظهور الأحياء السكنية الحديثة.
يتميز أهل حلب بلهجتهم المحلية المميزة والتي تستعير كثيراً من الكلمات من اللغة التركية نظراً لقرب المسافة الجغرافية,وسيسجِّل التاريخ انه كانت هناك مدينة جميلة تغرِّد في الصباح لخالقها وتنام في المساء على الحان المحبّة والسلام ممثلّة في القدود الحلبيّة ولكنّها صحيت احد الأيّام على الدم والدمار باياد وبراميل عربيّة وازيز طائرات حربيّة روسيّة وصوت امرأة حلبية تصرخ لك الله يامّة العرب كيف دمّرت حلب ولكن مهما استعنت بالغريب علينا سنبقى مع العروبة طاول طاول .
رحم الله شهدائك يا حلب وشفى الله جراحك وحرّر أسراك وعمّر بنيانك من جديد ولعن الله خائنيك يا امّة العرب وكان الله في عونكم يا من بقي منكم يا شعب سوريا الشريف .
وحمى الله امتنا العربيّة من كيد المعتدين ومؤامرات الغادرين وحفظ بلدنا ارضا وشعبا وقيادة من أيِّ سوء .
احمد محمود سعيد
البناء الأخضر للإستشرات البيئيّة
ambanr@hotmail.com
18/12/2016