كان إلى حد قريب جدا يعتقد البعض أن المدنية هي تناول وجبات الطعام بالشوكة ذات الأربع اذرع, وتناول شرائح البطاطا المقلية بإبرة خشبية معدة لهذا الغرض, وشرب قهوة الصباح قبل تناول وجبة الإفطار, وأكثر من ذلك كان الاعتقاد السائد أن المدنية قيام النسوة بشرب الارجيلة في الجلسات الهادئة, وامتثال ألأطفال للنوم مع غروب الشمس بعد حضور حلقة من حلقات الصور المتحركة (توم أند جيري), نعم كان يسود البعض شعور أن المدنية هي أن يتكلم الناس بــاللهجة المدنية, تلك التي تقوم على تغيير أو ترقيق لفظ حرف من الحروف أو أكثر, أومسك سيجارة الكنت بطرفي إصبعي السبابة والوسطى دون ضغط عليها بدلا من وضعها في وسطهما والشد عليها.
اعتقادات كل هؤلاء للأسف الشديد بعيدة كل البعد عن مفهوم المدنية, فالقضية ليست قضية الأكل بالشوكة, أو بكيفية تناول شرائح البطاطا, أو بقيام النسوة بشرب النارجيلة, أو بتوقيت نوم الأطفال, أو تغيير أو ترقيق لفظ حرف من الحروف, أو بطريقة مسك سيجارة الكنت,..المدنية هي رؤية الشوكة والبطاطا والنسوة والأطفال والحروف الأبجدية والهجائية وسيجارة الكنت بنفس الرؤية عند الجميع وتوحيد المفاهيم حولها بعدل.
الديانات السماوية الثلاثة (اليهودية, المسيحية, والإسلامية) التي هبطت من السماء على الأرض ليتلقاها أنبياء ورسل أطهار(موسى, عيسى, ومحمد) سعت جميعها ومنذُ اللحظة الأولى إلى توفير مناخ قيمي أخلاقي عادل ترضى به كل البشرية وتتفق عليه,..بمعنى تحقيق جميع أركان (العدل) على الأرض, كون السماء أخذت صفة اكتمال العدل أو ما يسمى بالعدل المطلق,..كيف لا وقد قال سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق), ومكارم الأخلاق هي القيم, والقيم بمنظومتها الواسعة هي (العدل), والعدل يا سادة يا كرام هو المحور الرئيس الذي تدور حوله جميع عناصر منظومة القيم, والعدل يحتاج منا جميعا رؤية واضحة ورسالة صريحة.
لقد نجح جلالة الملك عبد الله الثاني من خلال رؤيته الواضحة ورسالته الصريحة, نجح بالتمهّيد لورقته النقاشية السادسة والتي تحدث فيها عن (سيادة القانون) من خلال خمسة أوراق نقاشية سابقة كان الحديث في مجملها يدور حول(الديمقراطية), وهنا يجب أن نتوقف قليلا عند محطتين: أولا وقبل كل شيء أعطى جلالته على هذه الأوراق صفة النقاشية وهذا احترام واضح وصريح من جلالته لعقل وفكر هذا الشعب, الشعب الأردني الطيب, فجلالة الملك يدرك انه بـ(النقاش) الهادف والهادئ تتحقق الأفكار وتتوحد وتستقر في النفوس, وتصبح هذه الأفكار ثقافة عامة عند الجميع, ثانيا يؤكد جلالته لنا أن الديمقراطية هي القاعدة الأساسية الصلبة لسيادة القانون, وان سيادة القانون هو بعينه (العدل) وان غياب العدل عندنا لا قدر الله هو التحدي الأكبر لنا.
السعي الدءوب والمستمر لدى جلالة الملك لبناء الدولة المدنية أو مدنية الدولة من خلال سيادة القانون, يؤكد حقيقة توارث (الجينات), فجلالة الملك من نسل سيد الخلق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وكما يقال: للوراثة عودة ولو بعد حين, فقد أسس عليه الصلاة والسلام (مدنية الدولة) في الجزيرة العربية والتي كانت تقوم على مكارم الأخلاق وعلى مبدأ العدل أي على الديمقراطية وسيادة القانون, وها هو جلالة الملك عبد الله الثاني في أوراقه النقاشية المطروحة, يسعى دون كلل أو ملل لتأسيس الدولة المدنية أو مدنية الدولة من خلال الديمقراطية وسيادة القانون.
نعم لقد أسس عليه الصلاة والسلام (مدنية الدولة) بكل ما تعني الكلمة في الجزيرة العربية, حيث اخرج الناس من أبواب الظلم إلى أبواب العدل, نعم أسس لــ(دولة مدنية) عادلة قبل 1438عام, أسس لــ(دولة مدنية) جديدة مختلفة عن كل الدول، دولة ليس الاختلاف في مظاهرها بل في مضمونها، دولة أساسها منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية التي يحملها الإنسان وتوجه سلوكه, دولة يسودها المساواة والعدل والقانون,..دولة حضارية.
بقي أن نقول: قطار (الدولة المدنية) التي ينادي بها جلالة الملك عبد الله الثاني عرباته تتسع للجميع, وتذاكره في متناول الجميع وبأسعار تشجيعية, ومحطاته محددة وواضحة لجميع الفئات,..لقد أطلق جلالته صافرة انطلاق قطار(الدولة المدنية) عبر مسيرة الإصلاح الشامل والتي تأخذ الآن بُعداً مختلفاً كي توافق طبيعة المرحلة الجديدة والعمل على إنجاح مرحلة التحول التاريخية, وعليه ينبغي توخي الشفافية والانفتاح وتوفير المعلومة, كل ذلك يؤدي إلى الجدية التي يجب على الأجهزة الحكومية العمل بها وبما يفضي إلى الارتقاء المستمر في كفاءة ونوعية الخدمات الحكومية وضمان وصولها إلى جميع المواطنين والالتزام بمؤسسية العمل في أجهزة الدولة لضمان أعلى درجات الكفاءة والشفافية في الاختيار لضمان نجاح الخطط الحكومية, إن دعوة قائد الوطن الحكومة إلى إطلاق قطار (الدولة المدنية) لتنهض بالأداء الحكومي ضمن خطة معلنة وأهداف محددة، ..جلالته قد حسم المسألة ولم تعد مجرد خيار بل ضرورة وعلى هذا يجب أن يعمل الجميع كل في موقعه كي تتواصل مسيرة الإصلاح وتؤتي أُكلها.