لم تكن نتائج انتخابات البرلمان المغربي يوم 7 تشرين أول 2016 ، على المستويين الوطني والحزبي ، حصيلة عمل متسرع ، أو جهداني ، أو نشاط مكثف ، أو ضربة حظ لورقة يانصيب ، بل هو نتاج تطور موضوعي في بنية المجتمع المغربي ، وحصيلة قرارات شجاعة من قبل طرفي المعادلة السياسية ، من قبل رأس الدولة الملك ، ومن قبل الأحزاب السياسية وكذلك مؤسسات المجتمع المدني .
انتخابات البرلمان السابقة يوم 25 تشرين الثاني 2011 ، جرت كأول انتخابات نيابية على قاعدة الدستور الجديد الذي قدمه الملك لأستفتاء عام في تموز من العام 2011 ، وها هي الدورة البرلمانية الثانية تتم على أساس هذا الدستور ، والذي تم بناء على مبادرة الملك وتمت صياغته من قبل لجنة مختصة شكلها الملك ، بعد مظاهرات 20 شباط 2011 ، والتي إنفجرت بما يتوافق وينسجم مع مخاض الربيع العربي، الذي اطاح بنظامي الحكم في تونس ومصر ، وتولي الإخوان المسلمين السلطة بناء على نتائج صناديق الاقتراع .
وقبل أن يمر شهر على تلك المظاهرات الاحتجاجية ، أعلن الملك المغربي في خطاب له يوم 9 أذار 2011 ، عن جملة من الاصلاحات الجوهرية ، بما في ذلك تشكيل لجنة صياغة الدستور ، الذي يتضمن تعديلات يتم بموجبها تولي رئيس الحزب الذي حصل على أعلى نسب التصويت وأكبر عدد من المقاعد البرلمانية ، رئاسة الحكومة ، وبهذا كلف الملك ، بناء على تلك النتائج الانتخابية ، أمين عام حزب العدالة والتنمية عبد الإله بن كيران ، برئاسة الحكومة، باعتباره الحزب الأول الذي حصد الأغلبية ، وشكل حكومته من ائتلاف برلماني مكون من ثلاثة أحزاب .
طرفا المعادلة السياسية المغربية ، الملك والأحزاب السياسية ، التقطا المصلحة العليا للدولة المغربية ، وللشعب المغربي ، وأدركا تطور الموقف الدولي الأوروبي الأميركي المؤثر عليهما ، لبلد ما يزال يحتاج للمساعدات الاقتصادية والمنح المالية ، ولا يستطيع الفكاك من هيمنة وضغط العوامل الصانعة والمؤثرة محلياً وإقليمياً ودولياً .
وهكذا نجد أن الملك محمد السادس ورث عن والده الحسن الثاني جملة من المعطيات الايجابية أبرزها تعديلات 1992 و 1996 الدستورية، وتولي زعيم المعارضة عبد الرحمن اليوسفي أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي رئاسة الحكومة على أثر المصالحة بين القصر والمعارضة ، وإضاف إليها بعد رحيل والده وتوليه العرش ما يسمى لجنة الأنصاف والمصالحة، التي تولت معالجة التجاوزات والخطايا بحق رموز المعارضة من الفترة الواقعة ما بين 1956 إلى عام 1999 ، وفتح ملفاتها السوداء أمام الرأي العام المغربي ، تصديقاً للتوجه بإلغاء كل الإجراءات التي أرتكبت بحق المعارضة والتعويض المادي والمعنوي على من وقع عليه الضرر فردياً وجماعياً ، وبذلك سجل الملك بداية عهده بسجل إيجابي في إحترام خيارات الشعب المغربي والإقرار بالدور الوطني للمعارضة ، وحقها في الأجتهاد والأختلاف، وإرساء قيم تداول السلطة وفق نتائج صناديق الاقتراع الانتخابية وإفرازاتها الحزبية .
مقابل ذلك لم تكن المعارضة عديمة الأدراك في التعامل مع وعي الملك ، واستعداده للتجاوب مع التطورات الداخلية والأقليمية والدولية ، وحرصه على عدم التصادم والتوصل إلى قواسم مشتركة وحلول منتصف الطريق، وإعطاء الأحزاب حقها في الشراكة في إدارة الدولة وفق نتائج صناديق الأقتراع ، وهكذا لم يكن فوز حزب العدالة والتنمية بـ 107 مقاعد في انتخابات تشرين الثاني نوفمبر 2011 مفاجئاً ، بل جاء حصيلة تطور تدريجي من الفوز بتسعة مقاعد عام 1997 إلى 47 مقعداً عام 2007 ، وقد ترافق ذلك مع نمو الاتجاه الواقعي الأيجابي لدى الحزب وتمسكه بالخيارات الدستورية انعكاساً لموازين القوى ، وتسليماً بالنظام الملكي الدستوري ،
فقد استنكف حزب العدالة والتنمية عن المشاركة في المظاهرات الاحتجاجية مع بداية العام 2011 ، ورفض شعارات إسقاط النظام كما حصل في تونس وليبيا ومصر وسوريا ، وتمسك بالخيارات الأصلاحية ، وقد عبر أمين عام الحزب ، رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران عن هذه السياسة بالغة الوضوح بقوله " إذا كان المغاربة يريدون رئيساً يتنازع مع الملك ، فليبحثوا عن شخص غيري " وهكذا تولدت ثقة بين الملك ومؤسساته من طرف ، وبين حزب التنمية والعدالة من طرف أخر، هذا الحزب الذي رفع شعاراً مركزياً فحواه " الأصلاح في ظل الاستقرار " .
نجاح حزب العدالة والتنمية الذي يصف نفسه على أنه حزب سياسي بمرجعية إسلامية ، يعود لمرونته السياسية وتمسكه بالمزاوجة بين الدين والأنفتاح ، ولذلك نجد ان من يخالفه ويعترض عليه ويبادله الخصومة من ينتمون الى طرفين أساسيين، وأول خصومه اتجاهات دينية متشددة يقف في طليعتها جماعة العدل والإحسان، التي تقف ضد المسار السياسي السائد وإن كانت لا تقبل بالعنف لتغيير النظام ولا تمارسه ، ولكنها تجد أن المسار السياسي مُضلل وغير مقبول وترفض الشراكة فيه ومن خلاله ، وقد عبر عن ذلك نائب أمين عام الجماعة فتح الله أرسلان والناطق بإسمها بقوله " النتيجة واضحة تتمثل في توالي إنحسار جاذبية هذا الخيار بالتقلص المستمر في عدد المسجلين في اللوائح الأنتخابية ، رغم الجهد والمال الكبيرين اللذين ترصدهما الدولة لاستمالة الناس " نحو العملية الأنتخابية ، وإفرازاتها ، وأن " الرهان على التغيير بالمشاركة من داخل المؤسسات الفاسدة مع تقديرنا لأصحابه ، ثبت فشله المطلق طوال الستين سنة الماضية ، ولم يزد الأستبداد إلا تجذراً والفساد إلا إنتشاراً ومشروعية " .
وفي مقابل حزب العدالة والتنمية " الأسلامي " برز حزب الأصالة والمعاصرة ، الذي تأسس وأقام شرعيته على قاعدة مواجهة الإسلاميين " وتحولت المواجهة بين الحزبين ، حزب العدالة والتنمية من طرف وحزب الأصالة والمعاصرة من طرف أخر ، تحولت إلى عقيدة سياسية بين الحزبين ، وعلى الرغم من الأتهام السياسي نحو الأصالة والمعاصرة على أنه " حزب الملك " وحزب الطبقات الثرية ، فالاتهام موجه أيضاً الى أمين عام حزب العدالة والتنمية على أنه " ملكي أكثر من الملك.
وهكذا نجد أن الملك والقصر يقف محايداً بين الأطراف المختلفة ، وبهدف واضح وهو " ضبط إيقاع المشهد السياسي للدولة المغربية بأكملها " ، حيث تشهد الحياة السياسية وجود أطراف سياسية معارضة للحزبين وخلافاتهما، حيث يقف في طليعتها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال ، وكذلك حزب التقدم والطليعة ، وحزب التجمع الوطني للأحرار.
h.faraneh@yahoo.com