لم نكن ندرك لماذا لم يكن أهلنا يوقظوننا على السحور. كنا نحب أن نسمع المسحر وهو ينادي «ياااا ناااايم وحد الداااايم». وأن نشق باب البيت الخشبي أو من الزينكو لنرى هذا الكائن الغريب الذي كان يجوب أزقة الحارة وسط غياب القمر ووحل المطر أو صيفاً في الليالي المقمرة الحارة.
كنا أطفالاً ننام مبكراً لنصحو قبل السادسة لنذهب الى المدرسة ونصل قبل الطابور الصباحي و.. ويله الذي يتأخر. فعصا المشرف الغليظة على الأيدي الصغيرة الرقيقة التي ترتجف من البرد كانت توجع الجلد وتدمع العين. لم يكن عقاباً أو انتقاماً بل تربية اجبارية لانتاج جيل يقدس العلم وصولاً الى العمل. وكم نقشت تلك التربية أثرها فينا عندما كبرنا وتخرجنا وعملنا وعلّمنا.
لاحقاً علمنا أن عدم ايقاظنا على السحور يعود الى أمرين، أولهما وأهمهما أنه لم يكن ثمة
طعام يكفي لكل العائلة التي يتراوح عددها بين خمسة وسبعة أفراد على الأقل. بالكاد كم قطعة من الجبنة الصفراء المستوردة التي كانت تباع في صندوق صغير من الخشب، صحن قمر الدين جامد للتغميس وليس للشرب كعصير، و..ما تبقى من طعام الافطار لمن نفسه طيبة ويستطيع أن يأكل وهو للتو مستيقظ من النوم ليعود اليه بعد الأذان. وطبعاً ابريق شاي يسهل بلع اللقمة.
الأمر الثاني أن تلك المرحلة، الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات، لم تكن تشهد عند الأهل ذلك التدين الذي تلاها وتزايدا كما نشاهد اليوم. فكان من السهل على الأهل أن يقنعوا أنفسهم وأبناءهم أنهم صغار على الصوم وأن الله لن يحاسبهم. أتذكر تلك المرحلة وأنا أشاهد كم غيرنا ما بأنفسنا نزولاً عند قوله تعالى « لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم «.
مائدة السحور في زمننا هذا عامرة بأصناف الجبنة واللبنه، المرتديللا، السمبوسك، الفول المدمس الذي يشكل اسمنتاً مسلحاً للمعدة يمنع الجوع في النهار. و..كل حتى تشبع أيها الطفل حتى تتعود على الصوم. وفعلاً يتعودون.
حفيدي رشاد ابن الصف الثاني الابتدائي، صام اليوم الأول من رمضان الحالي بدون سحور. حاول أبوه وأمه إثناءه لكنه أصر وفعلاً صام اليوم كله بعزيمة واصرار، فهذه هي السنة الثانية التي يصوم فيها رمضان كاملاً.
المجتمعات تغير تدريجياً من أساليب حياتها سواء من ناحية العادات والتقاليد واللباس وحتى الأفكار. يتحكم في هذا الجو العام السائد سواء في البيئة المحلية أو العالمية. فنساء اوروبا اللواتي يخرج اغلبهن الآن شبه عاريات كن يغطين شعورهن بالشالات ويرتدين الفساتين الطويلة في القرنين الثامن والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ذلك مثبت في روايات وأدب ولوحات تلك المرحلة.
في مرحلة الخمسينات والستينات كنا نرى امرأة واحدة من عشر ترتدي الحجاب. اليوم نرى العكس، وان كان ليس كل محجبة متدينة. وكان الميني جوب منتشراً في الجامعات والشوارع وهذا ما لم نعد نراه اليوم الا نادراً.
لسنا في وارد الحكم على الخطأ والصحيح والأصح لكنها سنة التغيير التي لا بد أن أمراً إلهياً وراء كل ما في الحياة.