حين أفكر في وضع عنوان لأي مقالة أخطها بعقلي قبل يدي فإنني أجتهد أن يكون هذا العنوان حافظا للخاتمة صدمتها .. وقد أجيد في ذلك وقد أخفق .. وماتوفيقي إلا بالله .. وكم من عنوان يعتريه الغموض ويصيب القاريء بالحيرة ويسير به بعيدا عن دلالة المقال وما كتب لأجله .. وليس من السهل أن تبني بناء دائريا تبدأ فيه من عنوان المقال ثم تعود إليه، فالعنوان يمارس نفوذه البصري والدلالي على القاريء.
في هذا المقال اخترت أن أعنونه بآية من القرآن الكريم، وتركت للقارئ أن يسبر بعقله المعنى القابع وراء هذا الاختيار ... جاعلا فضاء هذا العنوان حاضرا ومؤثرا وموجها القاريء في مراحل القراءة كلها ... وكلما عرضت للقاريء مجاهل للمعاني في داخل المقال كانت هذه الآية ( العنوان ) أشبه بعتبة لها وميض التعريف بتلك المجاهل.
من عجائب هذه الآية اختيار رب العزة للفظة ( العلو ) التي تفتح أمام بصيرتك مراتب شتى لمعنى هذا اللفظ ... فحتى وأنت تختار نعلك وترغب في أن يكون أفضل من نعل أخيك أو صديقك فأنت هنا تريد علوا ! .. وقد ترتفع الرتبة في العلو حتى تبلغ درجة حب أن تكون لك السلطة على الاخرين، وترى الجميع من حولك بحاجتك ويتسابقون لنيل رضاك ... بل قد تصل إلى حالة من الإفراط لدرجة حب رؤية الناس من حولك ذليلين لك صاغرين.
ورحم الله من قال: «آخرُ ما يخرجُ من قلوبِ الصدّيقينَ حبّ الجاهِ».
لقد رأى بعض السابقين من الصالحين أن أسلم طريق للخروج من هذه الرغبة الجامحة في النفس البشرية هي الإنزواء والبعد عن الأضواء والشهرة .. وهذا ديدنهم، بل والمعلوم لدينا من سيرتهم، فقد كان أحدهم يعرض عليه المنصب القيادي فيفر منه فراره من الأسد، وما كان يقبل به إلا بعد إلحاح وتأكيد من أهل الحل والعقد ..فإذا قبل به بعد ذلك دخل في مرحلة التسلط على نفسه هو، فلاتؤثر السلطة عليه وإن كان يعيش في قلب مجتمع باتت له فيه يد سلطة وجاه، وطبعاً هذا منحى عسير ليس باليسير !! .. فليس من السهل أن لا يعجب الانسان بالتفاف الناس من حوله، فيصيبه الغرور فيقع في الغفلة، بل يبلغ منزلة في الفهم والرقي أن يقول كما كان يقول علي رضي الله عنه: « لايزيدُني کثرةُ الناسِ حولي عزّاً، ولا تفرّقُهُمْ عَنّي وحشةً».
هذه المنزلة الرفيعة من السيطرة على النفس البشرية و كبح جماحها لاتتأتى لأي أحد.
ما اسهل القول وأيسره طبعاً؛ لکنّ الوصول إلى ذلك عسير وغير ممکن إلاّ بطلب العون من الله، وتهذيب النفس الجزيل.
ومن هنا نفهم ذلك الحوار بين الصحابي عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه و رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: "يا عبدالرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطيتَها عن غير مسألة أُعنتَ عليها، وإن أُعطيتَها عن مسألة وُكِلتَ إليها ... الحديث "
فالمنصب وإن كان له تبعات نفسية على صاحبه، فهناك تبعات فنية تقضي بأن يقوم صاحب المسؤولية بواجباته على أكمل وجه، ولن يستطيع ذلك بمعزل عن توفيق الله وإعانته له، وعليه فهو بحاجة إلى هذا الملك من الله ليؤيده وينصره. والفيصل بين هذا وذاك السعي للوصول إلى هذا المنصب أو البقاء بعيدا لحين مجيئه إليك راغما.
ومع ذلك كله وكما عند البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ".
فأولها المال والجاه والسلطة فنعمت المرضعة، وآخرها القتل أو السجن أو العزل أو النفي في الدنيا والحسرة والتبعات يوم القيامة فبئست الفاطمة.
فكيف لمن يعلم هذا الخطر العظيم، أن يحرص عليها، ويطلبها؛ فهذا إنما ينظر، في غالب أمره، إلى مغانمها، لا إلى واجباتها؛ ومثل هذا يجب أن لا يولّى، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَنْ - أَوْ لاَ - نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ".
وأما لماذا طلبها النبي يوسف عليه السلام في قوله [ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ] فذلك كما قال المفسرون -ومنهم الإمام القرطبي رحمه الله- أن يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية؛ لأنه علم أن لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح، وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره.
وأخيرا فإن حب الرئاسة والسعي لها شهوة خفية في النفس، وكثير من الناس قد يزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة عنده نجم سماوي لا يُدرك.
قال سفيان الثوري رحمه الله: " ما رأيت زهدا في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى".
وقال يوسف بن أسباط: " الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا".