أخبار البلد - ايهما اخطر: الشبع بعد الجوع ام الجوع بعد الشبع؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدكتور: رشيد عبّاس
هناك نوعان من الهرمونات التي تشارك في رفع شهيتك وأخرى تقمعها، وتعمل على زيادة ونقصان مخزون الطاقة في الجسم، حيث ان مستويات ذلك الهرمونات تتقلب طول اليوم، ما بين تقدم وتراجع، فهرمون (الجريلين) هو الهرمون المحفز للشهية، يفرز مبدئياً في المعدة ويقوم بإرسال إشارات للمخ لتشعر بالجوع، ترتفع نسبة الهرمون قبل تناول الطعام وهو الذي يعطي إشارة للمخ للشعور بالجوع، وتنخفض بعد تناول الطعام لمدة 2–3 ساعات عقب الانتهاء, في حين ان هرمون الشبع(الليبتين) هو الهرمون المسؤول عن الشعور بالشبع ويفرز من الخلايا الدهنية، ويعطي إشارات للمخ لتخبره أن الجسم قد حصل على مستوى كافي من الطاقة للتوقف عن الطعام بعد الامتلاء,..ويؤكد بعض الاطباء ان الشبع بعد الجوع اكثر خطورة على الجسم من الجوع بعد الشبع.
هذا بالنسبة لما يحدث في داخل جسم الانسان سيكولوجيا من زيادة ونقصان في مخزون الطاقة في الجسم, لكن ماذا عن سلوك وتصرفات الانسان في حالة الشبع بعد الجوع؟ وفي حالة الجوع بعد الشبع؟..الناس هنا تشبه المعادن الموجودة في الجدول الدوري للعناصر في خصائصها, حيث يبدو البعض كالتنك ويبدو اخرون كالألماس, وفي هذا السياق نتوقف عند حكمة ومقولة: تقول هذه الحكمة والمقولة (لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل، وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل), بمعنى اطلب الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها اصيل, ولا تطلب الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الخير فيها دخيل.
على اية حال يمكن تطبيق هذه الحكمة والمقولة على بعض الافراد المتشدقين على هذه البصيرة التي نعيش عليها, فالشبع بعد الجوع يجعل العقول مغلقة وتسير باتجاه واحد, في حين ان الجوع بعد الشبع يجعل العقول متفتحة وتسير بأكثر من اتجاه, تماما كما هو الحال في المعادن التي تكون عناصرها دخيلة ومغشوشة تلمع خافتة وتشع خافته وباتجاه واحد, في حين ان المعادن ذات العناصر الاصيلة النقية تلمع متوهجة وتشع متوهجة وبأكثر من اتجاه,..الربط بين الناس والمعادن في هذه الحياة فيه شيء من الصحة وشيء من الواقعية, فبعض المعادن عند اعطاءها الطاقة (حالة الاشباع) تنفلت مداراتها الالكترونية مسرعة وتكون اكثر فوضى, وعند سحب الطاقة منها (حالة الجوع) تتجمع مداراتها الالكترونية ببطيء وتكون اكثر انضباطا, وهكذا يبدو بعض البشر اقول بعض البشر.
لكن لكل قاعدة شواذها وان هذه الشواذ هي دلالة وتأكيد على صحة وصدق القاعدة, فتجد اشخاص على هذه الارض المعمورة, تجدهم ان شبعوا بعد جوع طويل شكروا الله على النعم التي انعمها الله عليهم سبحانه وتعالى وأفاضوا على غيرهم دون تشدّق, وتجدهم ان جاعوا بعد شبع طويل صبروا وصابروا واحتسبوا عند الله عز وجل وزاد ايمانهم ايمانا, هؤلاء يمكن اكتشافهم ورؤيتهم فقط بالمجاهر جمع مجهر عند تكبير احوالهم واوضاعهم ألاف المرات, لان اعمالهم وافعالهم كانت خالصة لله تعالى (مخّفية),..نعم اعمالهم وافعالهم ليس (ظاهرة) للبشر يراد بها الرياء والنفاق والشهرة.
حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الشبع والجوع في الدنيا والاخرة عندما قال: (اكثر الناس شبعاً في الدنيا، اطولهم جوعاً يوماً القيامة) حديثا شريفا يُجسد احد اشكال الصورة الرمزية حيث يرمز (للشبع) الى متاع الحياة الدنيا، ويرمز (للجوع) الى المحاسبة في يوم القيامة, فالدنيا يمتزج فيها نمطان من الاشباع، احدهما الاشباع وفق المبادئ التي رسمها الله تعالى، وهو الالتزام بها من حيث الحليّة والحرمة والكراهة والندب والاباحة، والاخر الاشباع غير الملتزم كالمحرم والمكروه، وحتى المباح يظل من زاوية خاصة، اشباعا يندم عليه الانسان حينما يقف في عرصات القيامة ويتحسر على ما فاته من الطاعة، بصفة ان المباح لا ثواب فيه ولا عقاب ولكنه يجسد سببا لحصول ثواب يفوته.
لقد ذكر الحديث الشريف مصطلح (يوم القيامة) ولم يذكر مصطلح (الجنة) او (النار) لان يوم القيامة هو يوم المحاسبة، حيث يطول الموقف لمن شبع في الدنيا فيحاسب على الحرام، او المشبوه، كما سيندم على المباح الذي اضاعه ولم يحوله من خلال النية الى مندوب، ولذلك فان المحاسبة المذكورة رمز لها النبي صلى الله عليه وسلم (بالجوع) مقابل (الشبع) في الدنيا، ويزداد الحديث امتاعا فنيا حينما يقابل بين الدنيا والاخرة، وبين الشبع والجوع, ..انه نبي الله, وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
بقي ان نقول: هذه الايام يبدو ان كثيرو الكلام (المتشدقون) هم في حالة شبع اكثر من كونهم في حالة جوع, نريد من هؤلاء كثيرو الكلام المتشدقين ان يمشون على الارض لا على صفحات الفيسبوكات الملونة, وان يغرد هؤلاء في آفاق وفضاءات الفقراء والمحتاجين لا فوق اغصان التويترات المائلة.