منقذ عقود ونقابة المهندسين تمثل أهم الكتل النقابية الحية المحيية في الأردن بما تحويه من الأعداد المتنورة من (الانتلجنسيا) التي ساهمت ومازالت تُساهم في تنمية الأردن وتطويره هندسياً ومهنياً واجتماعياً ووطنياً، فكانت مع أخواتها النقابات الأخرى الرافعة السياسية الأبرز في غياب الأحزاب، وما زالت كذلك في ظل الحضور الخجول لأشباه الأحزاب، بل مازالت من أهم رافعات المطالبة الملحة بمكافحة الفساد، وصقور النقابة من أشد الداعين إلى تعديلات دستورية جوهرية يمكنها أن تغير وجه النظام الأردني، لكنها بكل مجالسها منذ عقدين تتفنن في طرائق الاستبداد بالشأن النقابي ولا سيما صناديق النقابة وشراء أراضيها وبالمماطلة العنيدة منذ اثنين وعشرين سنة في إصدار قانون لهيئة المكاتب الهندسية في النقابة يمكنه أن يحقق طمح المكاتب ويرفع سوية العمل المهني الذي بنى الأردن ويُساهم بفاعلية في بناء الدول العربية، وله دور بارز في العالم أجمع، لكن المجلس يأبى كل هذا ويضرب بكل الضغوط الداخلية والخارجية عرض الحائط لأنه في ظل منهجه الاستبدادي يرى أنه باستجابته سيبدأ بفقدان لونه ووزنه وغاياته النقابية وغير النقابية.
فهل امتناع أو تمنّع أو ممطالة أو تهرّب أو (تطنيش) مجلس النقابة والنقباء لإصدار هذا القانون، منذ أكثر من عقدين من السنين أسبابه هندسية أو مهنية حقاً كما يُشيع المجلس ونقيبه المهذب جداً لولا ما يحيط به من ضغوط بيضاء أخر همها التهذيب في الأداء، فهل حقاً سبب هذه الأزمة مهني كما يدعي المجلس، وذلك حرصاً على عدم الإضرار بأصحاب العمل وعلى عدم الوقوع في إشكاليات تعارض المصالح إذا ما أُتيح قانونياً لهيئة المكاتب الحصول على الولاية الاعتبارية والفعلية هندسياً ومالياً وإدارياً لكافة أعمال الهيئة ولكافة مراحلها ؟ !
والرد المهني والنقابي والهندسي عند هيئة المكاتب متعدد الفروع، أولها أن هيئة المكاتب هي الأحرص على سمعة مكاتبها وسلامة مهنتها وحسن أدائها أردنياً وعربياً ودولياً، وثانيها أن مجلس النقابة المستبد بالهيئة من الألف إلى الياء أغلب من فيه من غير المتخصصين بشؤون المكاتب الهندسية، فمن لا يعرف عموميات عمل المكاتب يستبد بأدق دقائق ذلك العمل تجبّراً واستبداداً دون وجه حق، وثالث فروع الرد أن المعتصمين حريصون كل الحرص على الحفاظ على مظلة النقابة ومظلة مجلس النقابة قبل القانون المرتجى وبعده، وحريصون على وحدة النقابة، وحريصون أكثر على عدم الاضطرار آنياً إلى آخر الدواء وهو الكي وهو الوصول إلى لحظة اللاعودة بالمطالبة المؤلمة باستقلالهم عن النقابة التي بنوها حجراً حجراً وملاط البناء دمهم وعرقهم واعتقالاتهم المتكررة عندما كان الآخرون أدوات للحكومات في قمع الأحزاب والنقابات!
وفي ظل هذا المعمعان الذي يشل حركة الإنسان يتنادى الكل لرفع الحيف، فيُطالب ما يُقارب ثُلث مجلس النواب بأن يكون هنالك قانون جديد لهيئة المكاتب، وقد يُطالب بذلك مجلس الملك(الأعيان) وقد يطالب بذلك مجلس الوزراء، وكل مجلس الشعب الأردني، لكن مجلس النقابة لا يصغي لأحد في شأن النقابة كله وخاصة في شأن قانون هيئة المكاتب لأن العقل الذي يخلق المشكلة عاجز ذهنياً ونفسياً ومهنياً واجتماعياً عن حل المشكلة وعن السماح لأي كان بحلها لأنه سينحل بحلها!
هذا العجز المزمن في مجلس النقابة من أهم أسبابه أنه منقوص الشرعية أصلاً في النقابة فهو منتخب من 3-5% من جسم النقابة، وكلنا نعرف جيداً دور البنوك المستفيدة من أموال النقابة في تمويل الحملات الانتخابية وفي الدفع السخي عن المهندسين الجدد وعن المتخلفين عن الدفع وعن الهبات الواسعة النطاق والتي هي أسم آخر للرشا الانتخابي رغم الحديث النبوي الشريف أن الراشي والمرتشي والرائش في النار.
أما بالنسبة لمجلس هيئة المكاتب فهو منتخب من قبل ما يزيد على 80% من المكاتب، وبذلك فإنه ذو شرعية واسعة، لكن من مفارقات الزمان النقابي الأسود البياض أن مجلساً منقوص الشرعية يستبد بذي الشرعية الواسعة لأسابب ألوانها باهتة!
فمجلسنا الحالي بتركيبته الحالية، وبخططه الآنية، وبإرثه التراكمي من المجالس التي سبقته على نهجه، هذا المجلس القامع للنقابة المقموع من التوجهات البيضاء من خارج النقابة غير قادر بذاته أن يحل أي مشكلة في النقابة ليس له فيها مصلحة لونية واضحة أو مصلحة مالية أوضح، وبذلك فإنه أمّا أن يحل المشكلات مضطراً بالضغط الداخلي والخارجي أو أنه سيركب رأسه، كما هو شأنه دائماً عندما يرى أن موازين القوى مازالت في صالحه لفرقة بدلائه، ولا يهمه أن يكون مصير النقابة الانفجار من داخلها إلى شظايا أن انتقضت النقابة على استبداده الأبيض كما الكفن!
وفي ظل هذا الأخذ والرد المستمر منذ أكثر من عقدين يرد نقيب المهندسين على مطالب هيئة المكاتب بكل فوقية وبلغة احتقارية بأن مطالبكم وهمية، وأنتم حالمون مؤكداً احتقاره لشأن المكاتب بقوله أنكم لستم إلا مصرف للنقابة أي باللغة الدارجة(بالوعة) النقابة، وهذا هو المعنى الذي فهمه المعتصمون وهو استهانة لونية واضحة الدلالة، لكن لفظة مصرف لها معنى حقيقي آخر أكثر دلالة على دور المكاتب الهندسية في نقابة المهندسين وهو الاسم العربي الصحيح للبنك، وما المكاتب الهندسية حقيقة إلا بنك النقابة لأنها العمود الفقري لدخل النقابة، لذلك يستبد بها مجلس النقابة ويتهرب من إقرار أي قانون لهيئة المكاتب يقلل من قبضة مجلس النقابة على مجلس هيئة المكاتب، لأن إقرار مثل هذا القانون سيوقف تدفق الحنفية الكبرى التي يستعملها مجلس النقابة في التبرعات والأعطيات الانتخابيـة بطرق غير شرعية
أما احتجاج مجلس نقابتنا بأنه ليس كل المكاتب تطالب بتعديل القانون أو استصدار قانون جديد فهو مردود عليه لأن بيان الضد أو البيان الصادر عن الأقلية في هيئة المكاتب كما يقول المعتصمون يتوافق في أغلبه مع طروحات وتطلعات ورغبات المعتصمين، فيما عدا تعقلهم المفتعل في شأن الاستعجال والتصعيد، لكن نحن كمراقبين مهتمين نتساءل أين الاستعجال، والقانون المتخلّف القديم مر عليه ربع قرن ومحاولات تجديده متكررة منذ ذلك التاريخ، وأغلب عمان والأردن تم بناءهما في ربع القرن الأخير في ظل قانون أدّى ويؤدي إلى إرباكات واسعة في تناول المهنة هندسياً وإدارياً...
لكن بيان الضد جاء من المكاتب الهندسية المحسوبة على مجلس النقابة لوناً ومصلحة. كما يقول المعتصمون، والبعض يقولون أن بعض هذه الأقليـة تنافق المجلس خوفاً وطمعاً، فهل بلغ مجلس نقابتنا إلى هذه الدرجة المروعة من الترهيب والترغيب، وهل الساعون نهاراً جهاراً إلى تحديد صلاحيات الملك الدستورية يتحوّلون بقدرة قادر أو غادر إلى ملوك في النقابة يستبدون بكل الألوان فيما عدا لون الكفن!
فهل يود اللون الأبيض في نقابة المهندسين أن يكفّن النقابة ويدفنها، وهل هي جريمة المكاتب الهندسية أن أغلبها خضراء، ألم يكن سبب ذلك أنه عندما كان البيض يتنفذون في الوزارات في عشرات السنوات الماضيات كان الخضر يخرجون من المعتقلات ويمنعون من الوظائف في كل الحكومات ويحرمون من الجوازات حتى لا يخرجون للعمل خارج الأردن، فلم يكن أمامهم في مثل هذا الاعتقال المهني الكبير إلا اللجوء إلى استحداث المكاتب الهندسية التي بنت الأردن وأنجزت أجمل ما في الأردن، فهل جريمة هيئة المكاتب أنها ما زالت خضراء بينما بيّضت بعض السلوكات الفاسدة وجه النقابة بياضاً أقرب إلى بياض الأكفان، فكلنا نعرف الطابق جيداً الذي جعل المال واللون وليس المهنة والقانون من أهم أسباب محاصرة هيئة المكاتب الهندسية هكذا وعدم الاكتراث باعتصاماتها.
ثم أن القانون الجديد المطلوب والذي وصل بعد جهد جهيد إلى وزير الأشغال في (2003) ثم سحبه النقيب وقتها لأمرٍ ما، وكاد يصل الوزير في (2007) لكنه بقي حبيس الأدراج مهما حصل بين الألوان في النقابة من انفراج، هذا القانون ضرورة مهنية وهندسية وليس ترفاً أو حلماً أو وهماً كما يروّج مجلس النقابة، فالقانون القديم الذي أعد في 1985 وبدأ نفاذه في 1989، أصبح متخلفاً شكلاً ومضموناً وبنوداً، فهو يخصر اختصاصات المكاتب الهندسية بخمسة اختصاصات رغم أن سوق العمل الأردني والعربي والعالمي يتطلب مالا يقل عن تسعة عشر اختصاصاً هندسياً، وهذا القصور يشكّل إرباكاً في ممارسة المهنة والرقابة الفنية عليها، كما أن القانون القديم البائد كان يعالج مشروعات هندسية أكبرها يقارب 2000م2، من البناء والآن تصل تلك المشروعات إلى 50000م2، أو يزيد أي أن حجم الأعمال الهندسية في الأردن زاد خمسة وعشرين ضعفاً، وبعض مكاتبنا الهندسية الكبرى تصمم الآن وتشرف وتدير مشروعات عالميـة تصل إلى ألف ضعف حجم المشروعات في ظل النظام القديم المتخلّف، كما أن التعليمات التي ترخص عليها المكاتب تشترط سبع سنوات خبرة بينما القانون يشترط ثلاث سنوات فقط، مما يعني أن مجلس النقابة مقتنع تماماً بتخلّف القانون في هذا الشأن لكنه يقاوم التجديد لأسابب مالية أرسخ من الحديد، وبذلك فالأردن بنائياً وهندسياً يدخل عصر ناطحات السحاب بقانون مكاتب متخلف لا يناطح إلا التراب بفضل مجلس النقابة المرتاب !
كما أن القانون الجديد ضرورة مهنية كبرى لحماية المكاتب الوطنية مما يحيق بها وتفعيل دورها في المشروعات الكبرى التي تهبط على الأردن من السماء ولا تتلقاها أرض النقابة ولا هيئة المكاتب كمشروع سكن كريم بكل ما فيه من فساد غير كريم والذي كاد أن يتم دون المرور بهيئة المكاتب لولا الضغط الشديد والأخطاء الكبرى فيه التي تُغرق المحيط، أما مشروع العبدلي فيكاد ألا تكون فيه أية رقابة مهنية أردنية من قبل النقابة أو هيئة المكاتب، كأن ما يجري فيه ليس على أرض أردنية خاضعة لقوانين المهنة الهندسية في الأردن، ويُرجح أن الأمر سيكون كذلك في المشروعات الاستراتيجية الكبرى كقناة البحرين والتنقيب عن الصخر الزيتي والمفاعلات النووية وغيرها، ومن يظن أننا لا نملك الكفاءات المميزة في هذه المشروعات الضخمة إما أنه جاهل أو متجاهل أو مصاب بعقدة النقص حيال كل ما هو أجنبي، وغير أردني...
ولكي تصبح شركاتنا الاستشارية أكثر كفاءة فنياً وإدارياً لابد من قانون جديد عصري يُشرّع للشراكات بين المكاتب الأردنية والعربية والعالمية، وليس فقط الائتلافات الآنية، وكذلك يُشرّع لتسهيل العمل المشترك في المشروعات العملاقة مما يعظّم خبرائها وكفاءتها للسوق العربية والعالمية، كما هو حاصل في الدنمرك مثلاً التي تنافس عالمياً من خلال شراكات كبرى لأغلب التخصصات الهندسية في مكاتبها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وهذه الأمور الفنية تحتاج إلى قوانين متجددة تنظمها ليكون للعمل الهندسي الأردني دوره الفاعل المتفاعل في الأردن والخليج العربي المقدّر للعمل الهندسي الأردني، وكذلك الدول العربية الأخرى في ظل أجواء متقلّبة تحتم علينا تصدير المهنة والخبرة والمعرفة إلى الدول العربية المجاورة.
ومن الأمور التي لابد من الإشارة إليها هنا أن دخل النقابة عبر المكاتب الهندسية يصل إلى عشرين مليون دينار في السنة، هذا الدخل الكبير الذي تتمتع به النقابة أو شريحة محددة من النقابة أو لون واحد فيها عليه ملاحظات كبرى أهمها على الإطلاق أن نسبة كبرة من هذا الدخل غير دستورية مطلقاً، وهي الغرامات التي تفرض على المخالفات والتي جاءت ضمن التعليمات التي لا تستند إلى أي غطاء قانوني أو دستوري، بل إن بعض هذه الغرامات فيها مذاق المأسسة للفساد بكل أشكاله، فإذا كانت غرامة عدم توفير مهندس لمشروع ما أقل بكثير من كلفة الالتزام، بذلك المهندس للمشروع فإن الغرامة غير الدستورية أصلاً تصبح منفذاً متكرراً للجميع لتحقيق دخل غير دستوري للنقابة، ألا يستوجب هذا الأمر الخطير الخروج بقانون متطوّر مهنياً يمنع أي مظهر من مظاهر مأسسة الفساد والتغطية على الفاسدين في النقابة..
فمجلس نقابتنا المستبد نهاراً جهاراً يتهم الحكومات المتعاقبة بالاستبداد بالبلاد وهو أشد استبداداً بالهيئات والأفراد، وبذلك فإنه إن نجح في حملته القذافية الراهنة فإن سيقذف بالنقابة في قعر المقبرة النقابية الخالية من الرقابة أو المراقبـة.
وهنالك من المعتصمين وغيرهم ممن يتهم مجلس النقابة بأنه غير قادر على اتخاذ أي قرار إيجابي حيال هيئة المكاتب أو غيرها لأنه ببساطة لا يملك قراره من داخله وإنما قراره في مرجعياته اللونية من خارج النقابة الحريصة على دجاجة النقابة التي تبيض بيضات من الذهب الأبيض، فبعدما جفت ينابيع الدجاجات الأخرى أصبحت دجاجة نقابة المهندسين آخر الدجاجات لاستمرار مسلسل الرشا والأعطيات من أجل مختلف الانتخابات وكل ما هو آتٍ آتٍ، وكل فعل مدنّس يؤدي إلى النجاح في الانتخابات فهو من المقدسات!
وبذلك فإن ملخص الأمر أن مجلس نقابتنا يقوم في شأنه كله على مبدأ الغزو نعم الغزو ولو على غربان سوداء البياض لكي يفوز بالنقابة بقضها وقضيضها وليجعل كل من فيها أسرى وسبايا وكل ما فيها غنائم وأنفالاً، فنحن والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه أمام عقلية راسخة في السعي إلى الغزو والاستملاك الاستئثاري في كل شيء، وبذلك فإنه اعتماداً على هذه العقلية الاستحواذية فليس أمام دجاجة النقابة إلا أن تتابع وضع البيض أو أن تُذبح على الشريعة غير الإسلامية أو على الشريعة الانتخابية الفاقدة الشرعية، أو أن تنفجر من داخلها ليس بتدخلات المخابرات كما كنّا نخشى سابقاً وإنما باستبداد الغزاة الذين يفتون أنه حيثما المصلحة فثمة شرع الله. . فيا سبحان الله.. يا سبحان الله...