أخبار البلد -
لم يكن حصار قطاع غزة مقتصراً على العدو الاسرائيلي، فالمشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي برئاسة شارون الذي بادر للرحيل عن غزة عام 2005، بعد فكفكة المستوطنات، وازالة قواعد جيش الاحتلال عنها، ترك القطاع متعمداً، بدون مفاوضات وبدون تنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية، بهدف خلق حالة من الارباك والفوضى وعدم الثقة بين صفوف الفلسطينيين .
عمد شارون الى ذلك من منطلق ادراكه المسبق لقوة حركة حماس الصاعدة، المعادية منذ بداية تأسيسها عام 1987، لمنظمة التحرير وسياساتها وبرامجها وضد التحالف الوطني القومي اليساري الذي يقودها، فسياسة حماس قامت على أساس أن تكون البديل السياسي لمنظمة التحرير، وكان هذا نهجها وخيارها، انعكاساً لموقف وسياسات الاخوان المسلمين المعادية لمنظمة التحرير، نظراً لأنها في نظرهم، إحدى أدوات عبد الناصر، وتعمق خلافهم مع المنظمة، وزاد رفضهم لها، بعد انخراط القوميين واليساريين في صفوفها، فبدت وكأن منظمة التحرير الكيان السياسي العقائدي الأبرز في مناهضة توجهاتهم السياسية لتحرير فلسطين، وهو ما يفسر رفض كل الاقتراحات التي تم تقديمها لحركة حماس، بما فيها مساواتها بثقل حركة فتح في مؤسسات منظمة التحرير : المجلس الوطني، والمركزي، واللجنة التنفيذية، فالرئيس أبو عمار كان يجد شرعيته ليس في عدد من يمثلهم من قيادات فتح وكوادرها وقواعدها، بل بما يجمع تحت قيادته في اطار مؤسسات منظمة التحرير من كافة أطياف وقادة الجاليات الفلسطينية، اينما كانت وكيفما فكرت، بدون أن يترك لتيار أو موقف أو صاحب رغبة سياسية خارج ارادة المنظمة وخارج خيمتها، وكان هذا أحد مصادر قوته، وبهذه الخلفية عمل أبو عمار باتجاهين الأول احباط تطلعات حماس الانقسامية، والثاني احباط مشاريع شارون العدوانية، التي كانت تستهدف تقويض تمثيله، وتمزيق الوحدة السياسية للفلسطينيين .
شارون من جهته كان مدركا حجم حركة حماس، ويعي تطلعاتها في أن تكون البديل عن منظمة التحرير، وكان يعمل على تغذية ذلك، مثلما كان مدركاً لمميزة حركة حماس أنها امتداد لأكبر وأهم حركة سياسية عابرة للحدود في العالم العربي : حركة الاخوان المسلمين، وفوق ذلك كان يعي المكانة التي ستحصل عليها حماس لتسويق شرعيتها بنجاح، فيما لو غامرت في الوصول الى السلطة منفردة، ولم يكن معترضاً على ذلك، لأن هذا الخيار سيوفر للبرنامج الاسرائيلي وجود رأسين فلسطينيين كل منهما له قاعدته الملائمة المتصادمة مع بعضهما.
وهذا ما حصل فعلاً بعد تولي اسماعيل هنية كرئيس لكتلة الأغلبية لدى المجلس التشريعي، رئاسة الحكومة الذي كلفه بها الرئيس الفلسطيني، وهو المنصب الذي فرضه الأميركيون والأوروبيون على أبو عمار بعد ما وجدوا لديه الصلابة وعدم تقديم التنازلات المطلوبة في قضيتي القدس واللاجئين في مفاوضات كامب ديفيد تموز 2000، بما في ذلك مشروع كلينتون باعادة حوالي 97 بالمائة من أراضي الضفة الفلسطينية، وقد رفض أبو عمار هذا المشروع كونه يتضمن مساساً بالقدس وبحق اللاجئين في العودة، وبسبب رفضه لهذا المشروع وتفجيره للانتفاضة الثانية دفع حياته ثمناً لذلك عبر وسيلتين :
الأولى : تقليص صلاحياته باحداث منصب رئيس الوزراء تولاه محمود عباس الذي أطلق عليه أبو عمار تعبير « قرضاي فلسطين « تصنيفاً له بالتوافق والانسجام مع البرامج الأميركية الأوروبية الاسرائيلية غير المتفقة مع المصالح الوطنية الفلسطينية .
الثانية : تصفيته جسدياً على يد شارون مباشرة، ففي اللقاء بين شارون وبوش يوم 14 نيسان 2004، نصح بوش شارون ترك مصير الرئيس عرفات « لله « ليحدد مصيره، فرد عليه شاورن ونحن من جانبنا سنساعد الله على ذلك، وصمت بوش ففهم شارون أن الرئيس الاميركي قد وافق على خطته للعمل على ازاحة أبو عمار ورحيله .
في عهد بوش وبعد أحداث سبتمبر أيلول 2001، واحتلال أفغانستان والعراق، وجدت كوندليزا رايس أن العالم العربي يحتاج للتغيير، تغيير الأنظمة والأدوات، بعد أن استنفذ النظام العربي وظائفه مع نهاية الحرب الباردة، واستخلصت وزيرة الخارجية الاميركية أن النظام التقليدي العربي، ولّد أربعة مفردات هي : التطرف والارهاب والأصولية والعداء للغرب، ولذلك قرروا تغيير الأدوات عبر الربيع العربي بوسيلتين :
الأولى : عبر مظاهرات الشوارع التي قادتها مؤسسات المجتمع المدني .
والثانية : عبر الجيش الذي أطاح بالرئيسين في تونس ومصر، أما في ليبيا فقد جرى التدخل العسكري الأميركي والأوروبي المباشر لاسقاط نظام معمر القذافي وتغييره .
وتنفيذاً لهذه السياسة فرض بوش الانتخابات على العالم العربي وخاصة العراق ومصر وفلسطين، وضغط لمشاركة الاخوان المسلمين وأحزاب ولاية الفقيه فيها، وهذا ما حصل فعلاً، بعد تفاهمات بين الأميركيين والاخوان المسلمين ومشاركتهم في هذه الانتخابات، وهذا ما وقع في العراق ومصر بمشاركة الاخوان المسلمين، ومرشد الاخوان محمد بديع هو الذي أقنع خالد مشعل بالمشاركة بالانتخابات التشريعية الفلسطينية في 25/1/2006، بعد أن فرض بوش على الرئيس محمود عباس وأقنعه في لقائهما المشترك في واشنطن في شهر أب 2005 بضرورة اجراء الانتخابات التي فازت بها حركة حماس بالأغلبية 74 مقعداً من أصل 132 مقعداً، وتولى اسماعيل هنية رئاسة الحكومة .
حماس لم تكتف برئاستي المجلس التشريعي عبد العزيز الدويك، والحكومة اسماعيل هنية، بل بادرت الى الانقلاب وتولي ادارة غزة منفردة منذ شهر حزيران 2007، وأطلقت عليه « قرار الحسم العسكري « وبررته تحت ذريعة أن محمد دحلان مسؤول الأمن الذي كان قيد العلاج في ذلك الوقت في أوروبا، أن لديه مخططاً بالانقلاب على حماس والغاء نتائج الانتخابات، فبادرت هي « لأن تفطر به قبل أن يتغذى عليها « وعملت على شيطنته بهدف تسويق ما قامت به وما يجب أن تقوم به تنفيذاً لهدفها في السيطرة المنفردة على قطاع غزة، وجعل القطاع مصدراً لصنع القرار، وبالمناسبة كان أمير قطر السابق هو المسؤول العربي الوحيد الذي زار غزة، فيما السفارة الوحيدة المفتوحة للأن في غزة هي سفارة دولة قطر، وسفيرها محمد العمادي معتمداً رسمياً في غزة الى الآن .
عشر سنوات بقي الحال على ما هو عليه، مع ثلاثة حروب عدوانية 2008 و 2012 و 2014، تعرض لها قطاع غزة من قبل جيش الاحتلال، وحصار متعدد الأشكال بري وبحري وجوي، حتى وصلت حركة حركة حماس عبر ادارتها المنفردة لقطاع غزة الى طريق مسدود، فأجادت الاختيار ولو متأخرة كثيراً، ولكن أن تجيد الاختيار متأخرة أفضل من الأمعان في مواصلة الخيار المغلق، والحائط المسدود .
تفاهمات القاهرة يوم 11 حزيران يونيو 2017، أنقذت حركة حماس من أفعالها المشينة، ووفر لها فرصة الأنقاذ، ومستلزمات البقاء، والتراجع بكرامة عن كل ما فعلته سابقاً، من خطايا وموبيقات سياسية، فقد خسرت خيار المقاومة، مثلما خسرت تقديم نفسها كتنظيم قادر على ادارة مؤسسات دولة، وبذلك لم تكن أفضل حالاً من حركة فتح الملتزمة بالتنسيق الأمني مع العدو الاسرائيلي بين رام الله وتل أبيب، مثلما أن حماس ملتزمة باتفاق التهدئة الأمنية مع العدو الاسرائيلي بين غزة وتل أبيب، فقد توصلت الى اتفاق التهدئة على أثر الاجتياح الاسرائيلي الى قطاع غزة عام 2012، في عهد الرئيس الاخواني محمد مرسي، وكان قرار التهدئة مجحفاً بحق أهالي قطاع غزة، وبحق حركة حماس نفسها، ومع ذلك تم تجديد اتفاق التهدئة يوم 26/8/2014، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أثر الاجتياح الاسرائيلي عام 2014 .
نحو مؤتمر وطني على أرض غزة
بعيداً عن محاولات التهرب من الالتزامات الوطنية المطلوبة، وبعيداً عن تسجيل المكاسب الحزبية الضيقة، على حساب المصلحة الوطنية، فقد سجلت تفاهمات 11 حزيران باعتباره نقلة جديدة بين شياطين الصراع الفلسطيني وطرفيه البارزين، ومن أجل ارساء قيم ومفاهيم وسياسات جديدة تخدم الكل الفلسطيني ولا تضر أحدا بها، بل هي مفيدة لمختلف الاتجاهات والفصائل، وتعزز الجبهة الداخلية الفلسطينية في مواجهة مشروع العدو المتفوق، والذي ثبت لمختلف الأطراف أن الانقسام عنوان ضار على الشعب، وسلاح اضافي لمصلحة العدو تُقدمه أطراف الانقسام الفلسطيني عن وعي ومجاناً لصالح العدو، وسجل أنه أعاق مسيرة النضال الفلسطيني عشر سنوات عجاف، تآكلت خلالها الشرعية الفلسطينية، وسجل العدو نجاحات في الميدان وعلى الأرض اضافة الى الاختراقات التي كسبها عربياً وافريقياً ودولياً في الصين والهند وغيرهما .
مطلوب لجنة تحضيرية فلسطينية تلتقي في بيروت أو القاهرة تمهيداً لعقد مؤتمر وطني فلسطيني على أرض غزة عنوانه قطاع غزة، كجزء من الحالة الفلسطينية لبحث سبل وأدوات اخراج غزة من تخلفها وأزماتها، من فقرها ودمارها، ووضعها على طاولة الاهتمامات الفلسطينية والعربية والدولية كما يليق بتضحياتها بعد أن حققت انتصارين الأول ارغام شارون على ترك قطاع غزة عام 2005، على خلفية الضربات الموجعة التي وجهتها المقاومة الفلسطينية لقوات الاحتلال وأجهزته، والثاني صمود أهلها وشعبها في عناوين الاجتياحات العدوانية الهمجية الشرسة الثلاثة التي تعرض لها أهل القطاع في الأعوام 2008 و 2012 و 2014 .
مطلوب مؤتمر وطني فلسطيني داخلي يعمل على ترميم العلاقات الداخلية الفلسطينية، ووضع خارطة طريق جماعية ترفع من سوية العمل الداخلي، ووضع برامج تفصيلية في كيفية مواصلة المشوار، في قطاع غزة بما يختلف عن الضفة، وفي الضفة بما يختلف عن مناطق 48، وفي المنافي بما يختلف عما هو داخل الوطن، وفي بلدان المخيمات لبنان وسوريا والأردن بما يختلف عن أوروبا وأميركا، وهكذا ليكون هناك خطوات وبرامج تشاركية ذات طابع جبهوي من قبل الفصائل والشخصيات، غير مسبوق ليشكل اضافة ورافعة لقيمة عدالة القضية الفلسطينية، وأهمية ما تم تحقيقه، ومواصلة الطريق حتى في ظل ضعف المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني وتفوق المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي .
مطلوب مؤتمر وطني على أرض غزة، برعاية الشرعية الفلسطينية، اما من قبل اللجنة التنفيذية، أو رئاسة المجلس الوطني، واذا تعذر، فمن قبل المجلس التشريعي، ليتوج تفاهمات القاهرة وتوطينها باعتبارها نقلة وطنية تُنهي التفرد والهيمنة والأحادية واللون الواحد، وترسخ مرة أخرى الشراكة، والعقلية الجبهوية القائمة على التعددية، وتنوع الأراء والمواقف والسياسات، وصولاً الى تحقيق الأهداف التنظيمية الثلاثة كشرط ضروري وهام لتحقيق الانتصار وهي :
1 – برنامج سياسي مشترك .
2 – مؤسسة تمثيلية موحدة .
3 – أدوات كفاحية متفق عليها .
هذا هو الخيار، وهذه هي العناوين المفقودة، بدونها سيواصل النضال الفلسطيني التعثر ويخترع لنفسه معيقات تُحبط تضحيات شعبه، وللفلسطينيين أن يتعلموا من تجربتين تم احباط ما تم من تضحيات وبسالة بهما: الأولى انتفاضة السكاكين التي انفجرت في شهر تشرين أول 2015، والثانية اضراب الأسرى يوم 17/4/2017، بدون تحقيق نتائج ايجابية منهما ترتقي لمستوى البسالة والتضحيات التي قُدمت خلالهما .
h.faraneh@yahoo.com
* كاتب سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والاسرائيلية.