عندما كنت طفلاً صغيراً في الستينيات من القرن الماضي ارتفعت فوق اسطح بعض المنازل في مدينة الزرقاء، ومنها منزلنا، قضبان حديدية بطول أربعة أمتار أو تزيد تحمل على متنها شبكة استقبال البث التلفزيوني السوري والتلفزيون الأردني.
كنا نشكل سلسة بشرية تتكون من الوالدة التي تراقب شاشة التلفزيون في صالة الجلوس ثم واحد منا يقف أسفل «بيت الدرج» والثاني الذي يقف على منتصف الدرج والثالث الذي يقف على أعلى الدرج ثم الوالد فوق سطح المنزل وهو الذي يوجه الشبكة بإدارة العمود الحديدي. كان مشروعنا هذا لا يتوقف حتى يتم التأكد من أن البث التلفزيوني ممتاز وأن «التنميش» قد اختفى من فوق شاشة التلفزيون فنجلس جميعاً لنتابع التمثيليات والمسلسلات وبرامج الأطفال ومنها «الرسوم المتحركة» التي عرفتنا على الحيوانات و»الشخصيات» الكرتونية المختلفة ومنها القط توم والفأر جيري.
أخدتنا الرسوم المتحركة الى عوالم اخرى لم نكن ندرك أنها موجودة، فأصبحت جزئاً من حياتنا وملأت قلوبنا بالبهجة والإثارة. عرفنا من خلال الرسوم المتحركة ميكي ماوس، وبارني والرجل الوطواط وعرفنا أن القط توم يحمي المنزل من القطط الأخرى وعرفنا أن لجيري، الفأر الماكر، منزل صغير أسفل الحائط، نتسلل اليه فنشاهد سريراً ينام عليه وخزانة تحفظ ملابسه ومطبخاً يحتوي الأكواب والملاعق وقطعاً من الجبن السويسري المخروم كالغربال. تابعنا توم وهو يطارد جيري ليأكله بينما جيري يفلت منه، تجسيداً للصراع الأزلي بين القط والفأر ولكنه في «توم وجيري» يصبح حباً للمضايقة بدلاً من الرغبة في التخلص من الآخر.لعبت الموسيقى دوراً مهماً في حلقات توم وجيري ولا يعرف الكثير من الناس أن هذه الموسيقى هي من تأليف الموسيقار الأمريكي «سكوت برادلي» الذي استخدم كل أنواع الموسيقى وقام بتعديلها لتحاكي المقاطع والحركات التي تجري على الشاشة بدون أن تفقد الموسيقى شيئاً من وزنها أوقيمتها.
لم نكن ندري ونحن في سن الطفولة أن ما نسمعه من موسيقى في «توم وجيري» هو عبارة عن موسيقى عالمية راقية مثل «الدانوب الأزرق» ليوهان شتراوس «والفالس العظيم» لشوبان، «وبحيرة البجع وكسارة البندق» لتشايكوفسكي، وسمفونيات بيتهوفن وموتزارت وباخ و»حلاق اشبيليه» لروسيني وهي من أعظم الأوبرات الموسيقية الكوميدية.تابعت، وأنا فتى، مشاهدة التلفزيون الأردني والسوري وعندما سافرت للاسكندرية طلباً للعلم، تابعت التلفزيون المصري واحببت مشاهدة الأفلام السنيمائية في سينما أمير وسينما مترو، في حي الرمل، وسط مدينة الإسكندرية. كان لذلك سبب وجيه، فقد كان ربع الساعة الأولى قبل العرض السينمائي يخصص لأفلام «توم وجيري» التي كنا نتابعها كباراً وصغاراً.بعد الإنتهاء من دراسة الطب في جامعة الإسكندرية أخذتني الدنيا الى اصقاعها المترامية، في ورشات ومؤتمرات وندوات، وتعلمت من خلال أسفاري أن استمتع بالمسرح الحديث وبعالم البالية والأوبرا الساحر وكنت اذا ما استمتعت بإحدى المقطوعات العالمية اتساءل: أين سمعت هذه الموسيقى ؟ فأكتشف أنني سمعتها في «توم وجيري». زرت قبل سنوات مدينة سيدني / استراليا لحضور مؤتمر لجراحة الدماغ والأعصاب، فقمت بالتجول في القلب التجاري لمدينة سيدني. عند دخولك الى منطقة «بنلونغ» تنظر الى يسارك فتشاهد جسر الميناء الشهير الذي نشاهد الألعاب النارية وهي تطلق من فوقه بمناسبة كل رأس سنة ميلادية. اما الى اليمين فتجد حدائق سيدني النباتية الملكية الشهيرة التي امضيت فيها سحابة يوم كامل. في الامام، مطلة على المرفأ ، تظهر اوبرا سيدني التي تتكون من ثلاث مجموعات من الابنية التي تشبه الاصداف المفتوحة والمتشابكة مع بعضها ويظهر سقفها على هيئة شراعين متشابكين فلا عجب انها تعتبر عملاً هندسياً متميزاً ولا عجب ان اليونسكو اعتبرها من التراث العالمي.
في دار اوبرا سيدني ذهبت لمشاهدة «حلاق اشبيلية» وهي مسرحية كتبها الفرنسي «لومارشيه» وَحوَلَها الموسيقار الايطالي «روسيني» الى اوبرا، خلدت اسمه.
تدور احداث الاوبرا حول الصبية الجميلة «روزينا» التي توفي والدها و»بارتولو» الوصي على اموالها الذي يطمع في الزواج منها وهناك ايضاً حبيبها الكونت «المفيفا» الذي يتنكر بزي طالب فقير تحت اسم «لينديرو»، لكي يتأكد ان روزينا تحبه من اجل شخصيته وليس لثروته ومركزه. الشخصية الرئيسية في الاوبرا هو الحلاق «فيجارو»، المتوقد نشاطاً وحيوية ومرحاً والذي يساعد الحبيبين على الزواج.
اخذت مكاني في المقاعد الخلفية العليا حتى اتمكن من مشاهدة افضل فأنت من هناك تستطيع ان ترى الجمهور الجالس امامك وبين مقاعد الجمهور والمسرح تجلس الفرقة الموسيقية التي تحتل مساحة أرضٍ منخفضة بحيث لا يستطيع الجمهور رؤية الموسيقيين ولكنه يرى قائد الاوركسترا فقط.
يُفتح الستار على مسرح عميق واسع وتأخذك المقدمة الموسيقية الهادئة الى داخل المسرح فترتحل في جنباته لتشاهد مبانٍ بيضاء تمثل المدينة وابوابها وساحاتها اما ارضية المسرح فهي مساحات من اللون الابيض والازرق. يدخل «فيجارو» وهو يلبس بدلة الحلاقة البيضاء المحلاة بأزرار ذهبية وهو يدفع عربته البيضاء التي تحمل اسمه. يوزع بعض المطبوعات وهو يغني ويقفز، فيجتمع حوله المارة ويبدأ بحلاقة شعر احدهم وبعد الانتهاء منه يصعد فوق عربته ليدفعه الناس في ارجاء المسرح في احتفالية رائعة وهم يهتفون: فيجارو، فيجارو. تتصاعد احداث المسرحية وفي الفصل الثاني يكشف «الكونت المافيفا» لحبيبته روزينا عن شخصيته الحقيقية ويتدخل «فيجارو» لافساد مخططات «بارتلو» ثم يَفرغ المسرح من الممثلين وتقوم الفرقة الموسيقية باحداث صوت الرعد المتدرج، دلالة على مرور الزمن، وتنتهي الاوبرا بزواج الحبيبين بينما الكل يغني فرحاً وسعادة.
خرجت من دار الاوبرا بعد انتهاء العرض اتمشى في الطرقات المحيطة بها وكانت اشعة القمر تنعكس على مياه مرفأ سيدني فتذكرت الماضي وابتسمت وانا اتذكر حلقة «توم وجيري» عندما قام «توم» بدور الحلاق «فيجارو» وهو يغني على المسرح بينما «جيري» في مسكنه الصغير تحت خشبة المسرح، لا يستطيع النوم فيغرس رأسه في مخدته ويتقلب ويتشقلب في سريره ويغلق اذنيه بينما سريره يهتز مع ذبذبات الموسيقى: فيجارو، فيجارو، فيجارو.
أنا ادرك ان للرسوم المتحركة بعض الاثار السلبية التي يجب ان تُراقب مثل تعويد الطفل على الكسل والخمول والعدوانية وقد تتدخل في معتقداته وعاداته وتقاليده، ولكنني شخصياً اقول انني امضيت طفولتي وانا استمتع بالرسوم المتحركة التي قامت بتسليتنا واضحاكنا وخلقت فينا حب الاطلاع والاستطلاع كصورة بصرية وكلوحة سمعية. اقول وبمنتهى الصراحة انني ما زلت وانا في هذا العمر أجلس مع أولادي لنستمتع مع «توم وجيري» وفيجارو، حلاق اشبيلية.