على الرغم من أن الضمير الانساني والعربي والمسلم والمسيحي ضد استهداف المدنيين أو المس بهم ، أياً كانت قوميتهم أو ديانتهم ، وعلى الرغم من أن عملية تل أبيب يوم الاربعاء 8 يونيو/ حزيران 2016 ، أدت الى قتل أحد أهم الاكاديميين الاسرائيليين اليهود المناصرين للقضية الفلسطينية والمتعاطفين مع نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة ، ومن أهم المعادين للصهيونية ومشروعها التوسعي ، وهو البروفسور ميخائيل فايغا ، الشخصية اليسارية الصلبة في مواجهة المؤسسة الرسمية الاسرائيلية ، وعمل حثيثاً عبر محاضراته ومقالاته وكتبه التي عرى من خلالها فكرة الاستيطان الاستعماري على أرض الضفة الفلسطينية ، وساهم في اعداد كتاب حول توظيف علم الاثار في ادعاءات الفكرة الصهيونية ، وقد نعاه القائد الفلسطيني محمد بركة رئيس لجنة المتابعة للوسط العربي الفلسطيني في مناطق 48 لأنه « الشخصية الاكاديمية البارزة التي تؤمن بحقوق شعبنا « .
على الرغم من كل ذلك ، وخسارة أحد أبرز أصدقاء الشعب الفلسطيني من بين صفوف الاسرائيليين لسوء الحظ ، ولكن العملية بحد ذاتها تأكيد على أن عمل الفلسطينيين ونضالهم في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي لن يتوقف مهما تلكأ أو تباطأ أو صابه العطب ، أو ارتكبت تجاوزات في مساره ، أو تغيرت أشكال أفعاله ، ولكن ذلك يسير باتجاه واحد محدد لا تغيير في مضمونه وهو رفض الاحتلال والعمل على مقاومته ، بأدوات ووسائل مختلفة ، تتوسل التكيف مع معطيات الواقع والرد عليه ورفض فرضه ، مهما تفوق الاحتلال على ضعف الفلسطينيين وانحسار قدراتهم ، وتخبط أولوياتهم ، فالادوات تتغير ، والاشكال تتبدل ، وحرارة السياسات تعلو وتهبط ، والاجراءات تتحايل ، ولكن يبقى هدف واحد هو معيار كل ما يمكن أن يربط الاحداث والسياسات والمواقف والافعال ، وهو رفض المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي ومناهضته ، ونيل الحرية والعودة والكرامة للفلسطينيين .
الشعب الفلسطيني لا يتميز عن باقي شعوب الارض ، ولا يتفوق عليهم لا في تضحياته ولا في رغبته للحرية ولا في انحيازه للحياة ، بل هو بشر مثلهم ، مثلما هو الاحتلال مثل كل الاحتلالات السابقة والمهزومة وان كان يسعى للتفوق على البريطانيين والفرنسيين والاسبانيين والايطاليين والاميركيين في احتلالاتهم لشعوب العالم وبلدانهم في أسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية ، ويخترع الادوات والتكنولوجيا ووسائل الاستخبارات لترويض الشعب العربي الفلسطيني ، من المسلمين والمسيحيين والدروز ، ويحبط عمليات ، ويكشف مخططات ، وتنتاب قياداته سكرات النصر ونشوة النجاح ، وفجأة ، تهب العاصفة الفلسطينية من حيث لا يحسب قادة الاحتلال وأجهزته ، وقد يكون قادة الاجهزة أكثر قيادات المشروع الاستعماري تحسباً ويقظة ولكنهم أكثر واقعية لتقدير الموقف وخاصة بعد تركهم لوظائفهم ، بعد أن يتخلصوا من التزامات المهنة وتعليماتها فيتحولوا الى سياسيين واقعيين ، عجنتهم خبراتهم وزودتهم بالحصيلة وهي أن هزيمة الشعب العربي الفلسطيني ، لن تكون ، وأن لا خلاص للصراع الاسرائيلي الفلسطيني سوى التوصل الى تفاهم واتفاق وشراكة من موقع الند والاحترام لحقوق الشعب الفلسطيني الثلاثة : حقه في المساواة والاستقلال وفي العودة ، اذ كيف يمكن لليهودي الاجنبي حق المجيء الى فلسطين والعيش فيها ولا يحق للفلسطيني ابن اللد والرملة ويافا وحيفا وصفد وبئر السبع للعودة الى بيته واستعادة ممتلكاته على أرض وطنه الذي لا وطن له سواه ، وأن حياة التشرد لا تقل قسوة عن الحياة تحت بساطير الاحتلال !! .
لقد انفجر العمل المسلح ضد المشروع الاستعماري التوسعي الاسرائيلي من خارج فلسطين ، منذ منتصف الستينيات على أيدي أبناء اللاجئين وسكان المخيمات الفقراء ، وانفجرت الانتفاضة المدنية الشعبية في الضفة والقدس والقطاع عام 1987 ، والانتفاضة المسلحة عام 2000 ، وثورة القدس عام 2015 ، وها هي تصل الى قلب تل أبيب بمحاذاة وزراة الدفاع .
وليس صدفة أن محمد وخالد مخامرة من يطا جبل الخليل اختارا هدفهم في مجمع سارونا التجاري الشبيه بمكة مول أو تاج مول في عمان حيث يخرج مئات الضباط والجنود العاملين في مجمع وزارة الحرب الاسرائيلية لتناول الافطار أو الغذاء أو الاستراحة خلال ساعات العمل ، والدوام في مكان لا يبعد عشرة أمتار عن مقاهي ومطاعم سارونا ، مما يعكس معرفة وفهم الشبان الفلسطينيين بطبيعة المكان وأجواء العمل فيه ، وأن تسربهم من الضفة الفلسطينية لقلب تل أبيب يحملان السلاح ، ليدلل على قدرة الاختراق مهما بدا ذلك صعباً ، وأن هؤلاء الشباب الذي لا زال أحدهما خالد مخامرة طالباً في كلية الهندسة في جامعة مؤتة مبعوثاً للدراسة من قبل منظمة التحرير كمنحة مقدمة من قبل الحكومة الاردنية لأبناء فلسطين ، مثلهم مثل أبناء المخيمات ، وأبناء مناطق 48 ، وهي العناوين الثلاثة المقدمة من قبل الاردن للشعب الفلسطيني عبر منظمة التحرير لمواصلة حياته وتحسين مستوى معيشته عبر التحصيل الاكاديمي الجامعي .
عملية تل أبيب تنير الطريق لكل عاقل ، أن طريق الحياة والكرامة مفروشة بالتضحيات ، وأن خيارات الاحتلال الاسرائيلي مهما بدت متفوقة ، فهي متعاكسة مع حق الانسان الفلسطيني في الحياة الطبيعية مثل كل الشعوب ، وكافة أبناء البشر ، وأن طريق العنف والعنف المضاد ، والقتل والقتل المماثل سيتواصل طالما أن الكرامة وحق الحياة على أرض الوطن مفقودة وغير مضمونة للفلسطيني الذي لا وطن له ولا كرامة له سوى على أرض وطنه فلسطين ، الذي لا وطن له سواه .
وبعيداً عن الانفعالات ، لندقق بالفعل الواعي الصادر عن عدد من قيادات الجيش الاسرائيلي وأجهزته الامنية الذين تجمعوا حول حركة أسموها « ضباط لصالح أمن اسرائيل « وأطلقوا مبادرة مصاغة من جانبهم تحت عنوان « الامن أولاً « وتم تسليمها للحكومة ولأعضاء الكنيست وسربوها للصحفيين وأعلنها رئيسهم ضابط الاحتياط أمنون رشف بقوله « خطة العمل تعتبر وسيلة للخروج من المأزق الذي وجدت اسرائيل نفسها فيه، وتحسن من وضعها الامني السياسي، فقط عملية متكاملة : أمني ، مدني ، اقتصادي وسياسي في الضفة والقدس وقطاع غزة – يمكن ان تؤدي الى تحسن كبير ودائم في الوضع الامني الاسرائيلي ، لذلك يجب اخذها كوحدة واحدة « وقال « كلما تدهور الشعور الشخصي بالامن ينقسم الخطاب في اسرائيل ويصبح أكثر عنفا، ولدى طرح البرامج، بدلا من الجدل حول وجود شريك فلسطيني أم لا، دولة اسرائيل قادرة على اخذ زمام المبادرة واتخاذ تدابير أمنية مستقلة من شأنها تعزيز مكانتها ، وخلق الامن والسلام ووقف الانقسام بين صفوف الشعب» .
ويطالب الحكومة الاسرائيلية « الاعتراف بكافة البلدات والاحياء الفلسطينية في مدينة القدس كجزء من الدولة الفلسطينية ، ولدى التوصل الى اتفاقية نهائية مع الجانب الفلسطيني تكون اسرائيل ملتزمة بهذا الموقف ، كذلك يتوجب على اسرائيل ان تعلن بشكل واضح بأنها لن تقوم ببناء أي مستوطنة جديدة ، وعدم توسيع المستوطنات القائمة ، وتعلن احترامها وحفاظها على الوضع القائم المعمول به في المسجد الاقصى ، وكافة الاماكن المقدسة الاخرى ، وتعلن عن قبولها مبادئ المبادرة العربية للسلام كأساس للمفاوضات ، وتصدر بيان تقول فيه الحكومة أنه لا يوجد لديها أي اطماع في المناطق التي تقع شرقي الجدار، وهي تحتفظ بها اليوم وتتواجد فيها حتى التوصل الى اتفاقية نهائية « .
وتضم هذه الحركة ما يقارب من 200 ضابط سابق من كبار ضباط الجيش وأجهزة الامن ، من بينهم رئيس جهاز الموساد الاسبق شبطاي شبيط ، وقائد الجيش الاسبق دان حلوتس ، ورئيس جهاز الشاباك الاسبق عامي ايالون ، وداني ياتوم رئيس جهاز الموساد الاسبق ، والضابط احتياط داني روتشلد ، والضابط اهود جروس ، مما يدلل على أن الاحساس بالانتصار مفقود ، والاحساس بالامن مفقود كذلك ، وأن لا خيار أمام الاسرائيليين سوى التوصل الى اتفاق يوفر للفلسطينيين الامن والكرامة والعدالة المفقودة ، ذلك هو الخيار الاصوب لوقف كل أشكال العنف من الطرفين ، من الاحتلال ومن المقاومة ، من الفلسطينيين ومن الاسرائيليين على السواء ، فهل تستجيب حكومة المستوطنين والتوسع والضم الاستعماري لنداء ضباطهم أصحاب الخبرات والتجارب في مقارعة الفلسطينيين واحباط مقاومتهم ؟؟ .