هناك ظاهرة مقلقة نشهدها في مجالات مختلفة، تتمثل في الانحدار التدريجي للخدمات العامة في مرافق عدة. فمن منا لا يشكو من أزمة السير الخانقة في أوقات النهار والليل كافة؟ وهي أزمة لم تعد حجة وجود المغتربين في الصيف كافية لتفسيرها، لأن الصيف انقضى والأزمة مستمرة. من منا لا يشكو من انحدار مستوى التعليم عبر العقود الماضية، انحداراً أدى إلى خلق جيل إقصائي في تفكيره وممارساته؟ ومن منا لا يشكو من سياسة اقتصادية لم تنجح حتى اليوم في تخفيض البطالة نقطة مئوية واحدة، رغم عقود من "الإصلاح الاقتصادي"؟ من منا لا يسمع يومياً عن حوادث إطلاق نار، ولأتفه الأسباب، لأن البعض يعتقد أنه أكبر من القانون، وأن هيبة الدولة لا تعني له شيئاً، لأن القانون لا يطبق على الجميع سواسية؟
ما هو القاسم المشترك الذي يمكن أن يفسر كل هذه الظواهر، في تلك المجالات وغيرها؟ ليس بالتأكيد ارتفاع عدد السكان، أو غياب الموارد المالية؛ وهي تحديات تواجه الدول كافة ولا ينفرد بها الأردن. السبب الرئيس يكمن في غياب التخطيط بعيد المدى، ومن ثم إرادة التنفيذ، حتى أصبحت ثقافة تسويف المشاكل تشكل الإطار العريض الذي يحكم عمل معظم أجهزة الدولة.
وترهل الأجهزة والعقول لا يأتي من فراغ، بل له أسباب واضحة. ففي غياب نظام حقيقي من المراقبة والمحاسبة، يمكن للحكومة (أي حكومة) ممارسة سياسة التسويف أو المعالجة الآنية للأمور، فقط لأنها تعرف أنها لم تأت من قواعد شعبية قادرة على محاسبتها، ولم تأت أيضاً وفق برنامج واضح ومعلن، وفريق متجانس لتطبيق هذا البرنامج. في ظل ذلك، تصبح جهود الحكومة -أي حكومة- فردية وقصيرة المدى في معظم الأحيان (كيف لا، ومعدل عمر الحكومة في الأردن أقل من سنة)، وغير متناسقة أو غير خاضعة لإطار عريض يحدد الوجهة التي نريد الوصول إليها؛ من تحسين مستوى معيشة الناس ضمن نظام من الفصل والتوازن، يضمن السيادة المتساوية للقانون على الجميع.
للأسف، أصبح الرد التقليدي على مثل هذه التساؤلات دفاعياً إلى حد كبير. وهناك نزعة لتحميل المسؤولية لأسباب عدة، ليس من بينها الاعتراف بغياب التخطيط طويل المدى لمعالجة هذه الأزمات، ووجود الإرادة السياسية الجادة لتنفيذ هذه الخطط.
صحيح أن الخيارات اليوم صعبة لتصويب الوضع. لكننا عملياً أمام خيارين فقط: صعوبة التصويب، أو استحالة استمرار الوضع الحالي. أما الخيار الثالث، وهو الاعتماد على معجزة لحل الوضع، فليس موجوداً. ولا أقول هذا بتهكم، بل لأن الدولة تتصرف في بعض الأحيان وكأن هذا الخيار ببالها. حان الوقت لمواجهة تحدياتنا بالتخطيط والعلم والإرادة السياسية، وليس بالخطابات والمواقف الدفاعية. إن لم نفعل ذلك، فالعواقب ستكون وخيمة.
تستطيع الحكومة أن تنفذ سياسة جادة لتطوير وسائل النقل العام مثلاً، أو سنواجه وقتاً نضطر فيه لاستخدام نظام أرقام السيارات الزوجية والفردية، لأن البلد لا يتسع لهذا العدد المتزايد من المركبات. كما تستطيع الحكومة البدء بسياسة جادة لتطوير نظام تربوي يعلم النشء أسس المواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع، أو سيأتي يوم، وربما قد أتى فعلاً، نرى فيه كيف يعامل المواطن أخاه المواطن بعدائية فاضحة، بسبب غياب فلسفة تعليمية حداثية تحترم التنوع، وبسبب مناهج تفوح منها رائحة الإقصائية، ضمنا أو صراحة. وتستطيع الحكومة تنفيذ خطة اقتصادية تبتعد عن النظام الريعي تدريجياً، وتخلق المناخ المناسب للقطاع الخاص، وخاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، لخلق فرص عمل حقيقية، أو سنجد أنفسنا غير قادرين على مواجهة البطالة من خلال عمالة مقنعة داخل أجهزة الدولة التي لا يمكنها تحمل المزيد، مع كل ما تعنيه هذه البطالة من ضائقة اقتصادية وشعور بالحرمان ونزعة نحو التطرف. كما نستطيع تطبيق سيادة القانون على الجميع من دون محاباة، أو نتعود أن يأخذ الكل القانون بيده.
هذه خياراتنا؛ صداع التغيير أو سرطان التسويف. فدعونا لا نموت ببطء لأننا لا نملك شجاعة التغيير.