يمكن أن يُفهم من قرار رئيس الوزراء، د. معروف البخيت، تشكيل لجنة استشارية عليا للتدقيق في القضايا التي تثور حولها ادعاءات بوقوع فساد، ومن ثمَ تقديم رأي استشاري حول وجود أدلة أو دلالات أولية تبرر متابعتها قضائيا، بأنه حرص من الحكومة على عدم الزج بأسماء مواطنين أو مسؤولين في قضايا فساد بصورة جزافية من دون أدلة كافية، وبما يخدم مبدأي النزاهة والشفافية في الإجراءات التي تتخذ من قبلها على هذا الصعيد، وكذلك مساعدة هيئة مكافحة الفساد في القيام بمهامها في ظل وجود نقص في الموارد البشرية والمالية، كما صرح بذلك رئيس الهيئة.
ومع الاحترام للسادة أعضاء اللجنة، فإن هذا القرار يثير إشكاليات قانونية وعملية عديدة، أهمها أن مهمة مكافحة الفساد، وبحسب الأصل، منوطة بمجلس الوزراء كأحد مقتضيات إدارة الشؤون الداخلية للدولة. إلا أن المجلس، واستنادا إلى نص المادة (45) من الدستور، قد فوّض هذه الصلاحيات إلى هيئة مكافحة الفساد بموجب قانون مكافحة الفساد رقم (62) لسنة 2006. وبالتالي، وخارج نطاق مهام الرقابة المنوطة بأي دائرة أو هيئة بموجب تشريع خاص بها، فإن مكافحة الفساد، وبما تنطوي عليه من نشاطات مادية مثل التحري وجمع المعلومات وطلب الأدلة والبيانات ودراستها وتقييم إنتاجيتها، هي من مهام هيئة مكافحة الفساد حصرا، ويقتصر دور أي جهة حكومية على الإخبار عن وجود معلومات أو شبهات بوجود فساد.
يضاف إلى ذلك، أنه في الحالة التي تتوصل فيها اللجنة إلى رأي بخصوص أي قضية محالة إليها بعدم وجود دلالات أولية أو شكوك موضوعية تبرر الملاحقة القضائية وتتبنى الحكومة هذا الرأي وتقرر عدم متابعة الإجراءات، فإن ذلك ينطوي على مصادرة لدور الهيئة المقرر قانونا، وخاصة في ظل إمكانية وجود رأي آخر للهيئة قد يقضي بالملاحقة القضائية فيما لو عرضت القضية عليها.
ونتساءل كذلك: ماذا لو أن الحكومة توصلت بنتيجة الرأي الاستشاري إلى إغلاق ملف قضية ما ولم يقنع صاحب المصلحة بذلك، وتوجّه إلى هيئة مكافحة الفساد، فهل ستمتنع الهيئة عن النظر فيها استنادا إلى قرار الحكومة المتخذ بهذا الخصوص، أم ستباشر إجراءاتها على الرغم من أي إجراءات سابقة متخذة على هذا الصعيد؟ لا شك بأن الهيئة ستكون أمام خيارين أحلاهما مر؛ فهي إن قررت عدم الملاحقة استنادا إلى اجراءات الحكومة، ستكون بذلك قد خالفت القانون الذي ناط بها منفردة ومن خلال موظفيها ولربما الكوادر المنتدبين لديها والمعارين إليها اتخاذ الإجراءات اللازمة، مثل التحري والتحقيق والتدقيق وغير ذلك من مهام؛ وإن هي باشرت الإجراءات من جديد، فسينطوي ذلك على إجهاض لجهود الحكومة، وإضاعة للوقت والمال.
كذلك، ماذا لو تم إخبار الحكومة والهيئة بالوقت نفسه عن وجود شبهة فساد؛ فهل ستقوم الهيئة بوقف الإجراءات التي يوجبها القانون إلى حين انتهاء اللجنة من مهامها؟ فهي إن فعلت ذلك ستكون قد خالفت القانون الذي تعمل بموجبه، والذي لا يتضمن أي نص يجيز لجهة حكومية أخرى أو مكلفة من قبلها مباشرة المهام الموصوفة في القانون بالإضافة إليها أو بالنيابة عنها، وكل ما هنالك أنه يجوز للهيئة التعاقد بنفسها مع الخبراء والمختصين فيما يتعلق بأعمال الهيئة، ودعوة أي شخص من ذوي الخبرة والاختصاص لحضور اجتماعات الهيئة للاستئناس برأيه، وهي صيغ خارجة تماما عن سياق تشكيل أي لجنة وزارية.
يضاف إلى ذلك أن منظومة عمل الهيئة تنطوي على ضمانات تمنع تسييس القرارات الصادرة عنها؛ فهي ملتزمة بموجب القانون بممارسة أعمالها بحرية واستقلالية، ومن دون أي تأثير أو تدخل من أي جهة كانت، وملتزمة كذلك بمكافحة اغتيال الشخصية. وهي ضمانات قانونية ذات بعد أخلاقي، في حين أن عمل أي لجنة وزارية على هذا الصعيد يتوافر له البعد الأخلاقي، ولكن من دون ضمانات قانونية.
كذلك، فإن نشاط الهيئة محكوم بضوابط زمنية. فهي ملزمة بإنجاز عملها في أي قضية في موعد أقصاه ثلاثة أشهر من تاريخ البدء بالتحقيق فيها. ولذلك، اشتُرط في أعضاء الهيئة التفرغ لممارسة أعمالهم، في حين أن أعضاء اللجنة الوزارية لديهم أعمال والتزامات أخرى، وان العمل على أي قضية ضمن القيود الزمنية اللازمة يتطلب قدرا كبيرا من التفرغ، نشك في أن جميع أعضاء اللجنة قادرون على توفيره.
وعليه، كنا نتمنى على الحكومة، وبدل الدخول في نفق اللجان واستحداث مرجعيات جديدة تثير إشكاليات قانونية، أن تعمل على تلبية احتياجات هيئة مكافحة الفساد كافة، ومنها زيادة مخصصاتها المالية على نحو يمكِّنها من زيادة كوادرها البشرية وتطوير تدريبها وتأهيلها، وبما يساعدها بالنتيجة على القيام بمهامها، ويتسق مع عِظم المسؤولية الملقاة على عاتقها في مرحلة أحد شعاراتها الرئيسة مكافحة الفساد.