مرَّت، يوم الأربعاء الماضي 17 نيسان، الذكرى الرابعة والعشرون لانتفاضة نيسان التي اندلعتْ في معان عام 1989 ثمَّ امتدَّت إلى الطفيلة والكرك ومادبا والسلط. ولفت نظر كاتب هذه السطور أنَّ هذه المناسبة المهمّة لم تحظ بما يليق بها من التغطية الإعلاميَّة، باستثناء مقالات محدودة متفرِّقة وما قام به موقع "خبر جو" الإخباريّ الإلكترونيّ، مِنْ إعادة نشر لمادَّة استذكاريَّة قديمة كانت "العرب اليوم" قد نشرتها، قبل سنوات، عن الانتفاضة. وقد تضمَّنتْ تلك المادَّة أسماء الحزبيّين الذين تمَّ اعتقالهم في سياق التدابير التي اتِّخذتها السلطات لمواجهة تطوّرات الانتفاضة. وليس الإعلام، وحده، هو مَنْ تجاهل هذه الذكرى، وتجاهل، ضمناً، تضحيات الشهداء الذي بذلوا حياتهم دفاعاً عن لقمة خبز الشعب الأردنيّ وحريَّته؛ بل الأحزاب السياسيَّة أيضاً. وهذا غريب؛ فكلّ الحياة السياسيَّة الأردنيَّة، بصورتها الحاليَّة، تأسَّستْ على ذلك الحدث الكبير المجيد؛ فالحرّيَّات السياسيَّة، وترخيص الأحزاب (باستثناء "الإخوان المسلمين" الذين كانوا مرخَّصين دائماً)، وإلغاء الأحكام العرفيَّة، وتجديد النخبة الحاكمة (حتَّى مع أنَّه مثَّل تراجعاً)، كلّ ذلك وسواه، انبنى على تضحيات الناس الذين خرجوا إلى الشوارع في 17 نيسان 1989 والأيَّام التي تلته. كان عدد المعتقلين مِنْ غير الحزبيين، الذين اعتقلوا بسبب مشاركتهم في الانتفاضة، بالمئات؛ لكن لا توجد، مع الأسف، إحصائيَّة دقيقة لأعدادهم ولا قوائم مفصَّلة بأسمائهم. ومَنْ يدقِّق في أسماء المعتقلين الحزبيّين التي كانت "العرب اليوم" قد نشرتها قبل سنوات وأعاد موقع "خبر جو" نشرها قبل أيَّام، يتوصَّل إلى حقائق تستحقّ التأمّل؛ فقائمة المعتقلين، تلك، مكوَّنة كلّها مِنْ ممثِّلي التيَّارات اليساريَّة والقوميَّة. ومِنْ بين حوالي 115 معتقلاً وردتْ أسماؤهم في تلك القائمة، استطعت أنْ أحصي حوالي 68 اسماً منها، على الأقل، لأشخاص كانوا، آنذاك، أعضاءً في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ، وهذا عدا عن الذين أعرف أنَّ السلطات سعتْ لاعتقالهم لكنَّها أخفقتْ في ذلك لأسباب مختلفة، ثمَّ قامتْ بملاحقتهم طوال الأشهر الثلاثة التالية. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّه، بعد أيَّام، تمَّ إطلاق سراح قسم مِنْ هؤلاء المعتقلين الحزبيين. وبحسب إحصائيَّة وردتْ في مقال نُشِرَ في "العرب اليوم"، قبل أيَّام، لصديقنا وزميلنا (ورفيقنا) أحمد أبو خليل، الذي كان أحد أولئك المعتقلين، بقي في السجن، بعد ذلك، 63 معتقلاً، منهم 50 شيوعيّاً. ألا يُذكِّر هذا بشيء؟ نعم، إنَّه يذكِّر بما جرى، بعد ذلك بسنوات طويلة في أكثر مِنْ بلد عربيّ؛ حيث كان المناضلون اليساريّون والقوميّون هم وقود الانتفاضات الشعبيَّة التي اندلعتْ في مصر وتونس، قبل سنتين، كما كانت شعاراتهم التي يلخِّصها شعار "خبز، حريَّة، كرامة، عدالة اجتماعيَّة" هي المرفوعة في الشوارع، إبَّان الأحداث؛ إلا أنَّ مَنْ حصد، في النهاية، ثمار كفاح الناس وتضحياتهم - المسيَّسين منهم وغير المسيَّسين - كان الطرف الذي استنكف حتَّى آخر لحظة عن النزول إلى الشارع، بل وظلَّ يسعى، طوال الوقت، لاغتنام أيّ فرصة سانحة تلوح له، لمساومة السلطات وعقد الصفقات معها بما يخدم مصالحه، على حساب الناس المنتفضين الذين كانوا يعمِّدون مطالبهم بدمائهم. خرجت الناس عام 1989، في معان وفي مدن أردنيَّة أخرى، للدفاع عن لقمة خبزها، ولرفض إملاءات صندوق النقد الدوليّ، وللاحتجاج على الفساد والتفاوت الطبقيّ الفادح، ورفض هيمنة أقليَّة طبقيَّة منتفعة على السلطة؛ لكنّ النتيجة كانت ذهاب القوى السياسيَّة إلى لجنة الميثاق الوطنيّ، برئاسة رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات، حيث تمَّ نسيان مطالب الناس الحقيقيَّة، والانشغال بالمطالب الأنانيَّة للقوى السياسيَّة التي تتمحور حول تحسين شروط العمل الحزبيّ وفتح الباب للمشاركة في السلطة. وفي النهاية، لم يكن لهذه العمليَّة مِنْ ثمار حقيقيَّة سوى الوثيقة الإنشائيَّة الفضفاضة المسمَّاة بـ"الميثاق الوطنيّ"، التي تمَّ حفظها في الأدراج مِنْ يومذاك وحتَّى الآن، وتفتيت القوى السياسيَّة صاحبة البرنامج البديل وشرذمتها، والوصول إلى وادي عربة، وهيمنة أنصار الليبراليَّة المتوحِّشة على السلطة لسنين طويلة.. بما أنتجوه من اختلالات اقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة وخراب. كان أحرى بالقوى السياسيَّة، بدلاً مِنْ ذلك، أنْ تتمسَّك بمطالب الناس، وأنْ يكون ذلك هو مدخلها الوحيد إلى مطالبها الخاصَّة. |
||
في ذكرى انتفاضة نيسان
داود كتّاب
أخبار البلد -