اخبار البلد
تأثَّر غابريل غارسيا ماركيز، بعمق، بأدب وليم فوكنر، وبلغ إعجابه به حدَّ قيامه في مرحلة شبابه بزيارة منطقة المسيسبّي جنوب الولايات المتَّحدة، موطن فوكنر الذي كتب عنه رواياته الفاتنة. كما ظهر هذا التأثُّر جليّاً في لغة ماركيز، خصوصاً في روايته الشهيرة «مائة عام من العزلة».
وقد تأثَّر ماركيز أيضاً بكافكا. ويتَّضح هذا في طريقة توظيفه للاستعارات الغرائبيَّة، بحيث أنَّ الكثير من قصص ماركيز يقترب في أجوائه من أجواء قصص كافكا. غير أنَّ انتباه النقّاد انصرف إلى ملاحظة تأثيرات فوكنر في ماركيز، واعتنوا بإبرازها أكثر من عنايتهم بإبراز تأثيرات كافكا. ومِنْ ناحية أخرى، فإنَّ ماركيز نفسه يتحدَّث عن الحيل الكتابيَّة التي استمدَّها من آرنست همنغواي ومن غراهام غرين.
على أنَّنا يجب أن لا نفهم أنَّ أدب ماركيز يمثِّل حالة مراوحة بين كافكا وفوكنر، فالأمر أعقد من ذلك بكثير؛ حيث هناك حالة جدل عميقة بين تأثيرات كلّ من هذين الأديبين المهمَّين على أدب ماركيز. وقد تمَّ كلّ ذلك على قاعدة راسخة من الثقافة الشعبيَّة الغنيَّة لأميركا اللاتينيَّة، إضافة إلى التجربة الخاصَّة والغنيَّة أيضاً لماركيز نفسه.
ويُسجَّل لماركيز أنَّ حصوله على جائزة نوبل لم يؤثِّر على مواقفه وخياراته السياسيَّة والفكريَّة، بل إنَّه لم يتردَّد في أنْ يبدي غضباً حقيقيّاً وامتعاضاً شديداً من منح جائزة نوبل للسلام لقاتل عنصري معروف مثل مناحيم بيغن.
وماركيز مشهور بصداقته العميقة لفيديل كاسترو، ولم يتنازل عن هذه الصداقة، رغم الانهيارات الكبرى التي حدثت في الحركة الثوريَّة العالميَّة، ورغم الهجوم الشخصي عليه من بعض كتَّاب الغرب وتنسيق حملة إعلاميَّة واسعة وظالمة ضدّه. ولماركيز أيضاً موقفه الإيجابي المعروف والثابت من القضايا العربيَّة، وخصوصاً من القضيَّة الفلسطينيَّة.
وقد تعامل ماركيز مع الكتابة كمهنة حقيقيَّة؛ فحرص على ممارستها بانتظام في أوقات محدَّدة وفي مكان عمل ثابت على الأغلب، وفي طقوس مهنيَّة معيَّنة. فهو لا يكتب، خصوصاً بعد احترافه، إلا في النهار، و«من الساعة التاسعة صباحاً وحتَّى الثالثة بعد الظهر، في غرفة هادئة، جيِّدة التدفئة». لأنَّ الضجَّة والبرد، كما يقول، يشتِّتان تفكيره.
أمَّا المنطلق الذي يبدأ منه ليؤلِّف كتاباً فهو صورة بصريَّة. يقول: «أعتقد أنَّ الكتاب يولد – بالنسبة لكتَّاب آخرين – مِنْ فكرة أو مفهوم. أمَّا أنا فإنِّي دائماً ما أبدأ بصورة. على سبيل المثال "قيلولة الثلاثاء" التي أعتبرها أفضل قصَّة قصيرة كتبتها، وُلدت من رؤية امرأة وفتاة صغيرة متَّشحتين بالسواد وهما تمشيان بمظلَّة سوداء تحت شمسٍ حارقة في بلدة مهجورة. في "عاصفة الأوراق" كهل يأخذ حفيده إلى جنازة. نقطة الانطلاق في "العقيد لا يجد من يكاتبه" كانت صورة رجل ينتظر مركباً قرب سوق بارنكيلا. كان ينتظر بقلق صامت. بعد ذلك بسنوات وجدت نفسي في باريس أنتظر رسالة – من المرجَّح أنَّها كانت حوالة ماليَّة – بالقلق ذاته الذي كان يبدو على وجه ذلك الرجل".
وتأخذ الجملة الأولى في الكتاب الكثير من وقت ماركيز، بل إنَّه يقول إنَّها تأخذ من الوقت أكثر ممَّا تأخذه بقيَّة الكتاب بأكمله؛ «لأنَّ الجملة الأولى يمكن أن تكون المختبر الذي يتبلور فيه الأسلوب والبناء وطول الكتاب أيضاً».
وهو، بخلاف غيره من الكتَّاب، لا يدوِّن ملاحظات للكتابة. لماذا؟ لأنَّه يعرف من تجربته، كما يقول، «أنَّه عندما تدوِّن ملاحظات، فسينتهي الأمر بك إلى التفكير في تلك الملاحظات وليس في الكتاب». لكنَّه يمزِّق الكثير من الورق أثناء الكتابة.
وبالنسبة لتنقيح كتابته، فقد اختلف تعامله مع هذا الأمر ما بين مرحلة الشباب وبين مرحلة الكهولة والاحتراف. ففي مرحلة الشباب كان – كما يقول – قد اعتاد على الكتابة على الفور، واستنساخ الأصل، ثمَّ مراجعته. أمَّا في المرحلة التالية، فقد أصبح يقوم بالتصحيح سطراً بعد سطر أثناء الكتابة، بحيث تصبح لديه في نهاية اليوم صفحة خالية من أي شطب وجاهزة تقريباً للنشر.
وهو يحبّ استخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة في الكتابة، ويقول عن ذلك: «أعتقد أنَّك تكتب أفضل عندما تتوفَّر لك كلّ الظروف المريحة. لا أؤمن بالأسطورة الرومانتيكيَّة التي تقول إنَّ على الكاتب أن يتضوَّر جوعاً وأن يواجه أسوأ الأوضاع قبل أن يتمكَّن من الإنتاج. إنَّك تستطيع الكتابة بشكل أفضل إذا تناولت وجبة جيِّدة وكانت تحت يدك آلة كاتبة كهربائيَّة».
وبالنسبة للشخص الذي مثَّل له العون الأوَّل في مهنة الكتابة، يقول: «جدَّتي كانت العون الأوَّل والرئيس لي، فقد اعتادت أن تقصّ عليَّ الأشياء الأكثر فظاظة دون أن تهتزّ لها شعرة، كما لو أنَّها رأتها لتوِّها. أدركتُ أنَّ أسلوبها الهادئ وثراء الصور لديها كانا الأكثر إسهاماً في جعل قصصها معقولة إلى حدّ كبير. واستخدمت أسلوب جدَّتي في كتابة ""مائة عام من العزلة".
وحين سُئل: «هل اكتشفت من خلال جدَّتك أنَّك ستصبح روائيّاً؟»، أجاب قائلاً: «لا، بل من خلال كافكا الذي كان يسرد الأشياء بالطريقة ذاتها التي اعتادت عليها جدَّتي ولكن بالألمانيَّة».
ثمَّ يؤكِّد بأنَّه تعلَّم الكثير من همنغواي؛ وخصوصاً تكنيك جبل الجليد العائم الذي يستند ما يظهر منه إلى أربعة أخماسه المختفية تحت الماء. ويقول بأنَّه مدين لهمنغواي ببعض الحيل المساعدة على الكتابة. «فهو (همنغواي) ينصح الكاتب ألا يصرّ على إنجاز المشهد الذي يكون بدأه، بل أن يترك تتمَّة المعالجة لليوم التالي. وبالفعل عندما يستأنف الكاتب في اليوم التالي ما بدأه تأتي نهاية المشكلة بسهولة».
ويقول ماركيز بأنَّه لا يدرس موضوعات رواياته، ولا يقيم وزناً للدراسات التي تسبق الكتابة الروائيَّة في أيّ موضوع، كما أنَّه لا يهتم بالتفاصيل الواقعيَّة.
وبالنسبة لتأثير السن على الكتابة يقول: «هناك اختلاف عندما يكون الكاتب شابّاً. لا يعني هذا أنَّ الجميع متشابهون، فأنا أحكي عن نفسي. في البدء تكون الكتابة الروائيَّة أشبه بكتابة القصيدة. إنَّها تنطلق كأنَّها نبضات. ثمَّة حشد من الصور والأحاسيس. وما عليَّ غير تسجيل تواترها دونما انشغال بالتقنية. فالدفع الموحي هو الذي يخلق التقنية ولا يهمّ ما سيقال وكيف. وعندما يثقل السن والتجربة على الكاتب، تخضع الكتابة لشروط جديدة، أهمها ما ستقوله وكيف، حتَّى لو كان الأمر يستدعي الكتابة في المواضيع نفسها التي شغلتك في البدء. والحق أنَّ الإلهام في زمن الكهولة يخفّ. فيحاول الكاتب، بالتالي، أن يعوِّض ذلك بالتقنية، فإذا لم تكن سيِّداً عليها انهار كلّ شيء. وهذا يعني الكتابة ببطء أكثر وبعناية أكبر وبوحي أقل ربَّما. تلك مشكلة الكاتب المحترف.
في العشرين كنت أكتب كلّ يوم قصَّة لإحدى المجلاّت. وفي الليل أغتنم خلوّ المكاتب لأعمل على رواية طويلة.(…) اليوم لا أستطيع أن أفعل الشيء نفسه. وحتَّى لو كانت الصورة واضحة لي، فإنَّني أستطيع أن أنجز الأقصوصة في أقلّ من ثلاثة أسابيع. والأسوأ أنَّني، ذات يوم، قرَّرت كتابة قصَّة؛ فاشتريت رزمة ورق من خمسمائة ورقة. ولشدَّة دهشتي وجدتني استهلكت خمسمائة ورقة من أجل كتابة قصَّة في خمس عشرة صفحة.
ثمَّ إنَّني في شبابي ما كنت أجد الوقت للكتابة إلا في الليل، حين أكون أنهيت واجباتي الضروريَّة لعيشي. وهدَّني التعب. (…) كنت في شبابي لا أعتمد على تدوين أفكار روايتي. فالفكرة التي كنت أنساها كانت تعني لي أنَّها لا تستحق التذكُّر. واليوم أنا مضطر إلى تدوين هذه الأفكار حتَّى لا أنساها. (…) وبما أنَّ لكلّ شيء عيوبه ومحاسنه فإنَّ الجيِّد في الشيخوخة أنَّها تسمح لك بالصبر المناسب لتحقيق التقنية التي تراها الأكمل. وهنا يجب أن أضيف شيئاً. إنَّ الكاتب الذي لم يستطع أن يمتلك تقنيته في شبابه لن ينجح في امتلاكها في شيخوخته».
*مِنْ مقالٍ قديم عن ماركيز، أعدتُ نشر مقتطفاتٍ منه ، بمناسبة رحيل هذا الكاتب التقدّميّ الكبير.