عندما كانت المعركة غير متكافئة، ومع قلة عدد المدافعين عن العدل والحق والكرامة ونور الشمس في القرية المسماة المدينة في المحيط المظلم، كان من مقتضيات الصمود والنجاح
تكليف مجموعة من أكفأ الموجود بالارتقاء الى اعلى جبل يتوسط ساحة النزال «جبل الرماة» عددهم قليل، لكن الواحد منهم يبث الروح والحيوية في الذين يشتبكون مع العدو الذي يسعى لاجتياهم، بل سحقهم كما خطط العدوا المتغطرس من قبل اعوام كان آخرها عام الانتقام بعد انتصار بدر الكبرى.
قالها رسول الله للقائد والرماة: «يا عبد الله بن جبير إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ، فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ، وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ».
فلستم لرمي السهام في نحور العدو او حتى في ظهورهم فقط، انما لكم مهمة اخرى لا تنتهي بمصير المعركة الظاهري الاول، انها اطلاق اسهم التوجيه والتثبيت والتربية والتطمين وليس بالضرورة ان تكون بالخطاب المباشر المكشوف الذي هو اضعف انواع الخطاب في الغالب.
فالمشهد والمظهر والايماءات والايحاءات ولسان الحال وتحدي التفلت للمشاركة في القتال مع وجود دواعيها عند احتدام الصفين واحمرار الحدق وارتفاع التكبير ورؤية السيوف تهوي على رؤوس خيار الناس، ثم الانتصار وجمع الغنائم شهادة على البلاء في القتال هو الشدة والفروسية، حقا انه الابتلاء الذي لا يصطفى له الا الاخيار العظام.
في كل موقعة، وفي كل موقع، وفي كل عمل مصيري هام، لابد من مجموعات رماة من نوع خاص تقف على الجبل تطل على المشهد كله ترقبه بلا كسل ولا تثاؤب، وتمارس ادوارها غير المنظورة على ان تكون من الذين يحسنون توجيه سهام الخير للقلوب والنفوس ولتبقى مستشعرة ان مجموعة حماية ومساندة ومدد جاهزة في كل حين.
اننا اليوم وغدا لا يصح ان نغفل وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام لا تنزلوا عن الجبل ولو رايتمونا تخطفنا الطير.
ان الذين يمارسون الاشتباك السياسي والعمل الاداري للشأن اليومي، وتسيير امور الناس ومعاشهم او مواجهة الخصوم بشتى انواعهم، بحاجة ماسة إلى من يقفون على جبال الرماة دائما، والا تغير مجرى المعركة وآلت الى الخسران لا قدر الله.
اننا بحاجة اليوم وغدا الى من يديم ترتيل الوعود القاطعة الاكيدة على مسامع العالمين والعاملين منهم على وجه الخصوص من على جبل رماة ان:
**{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِم امنا}.
**{واذكروا اذ انتم قليل مستضعفون في الارض تخافون ان يتخطفكم الناس فأواكم وايدكم بنصره ورزقكم من الطيبات}.
**{الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا}.
**{هو الذي اخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم ان يخرجوا وظنوا انهم مانعتهم حصونهم من الله}.
{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا}.
والى هتاف القائد الاول عليه الصلاة والسلام: «وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
ان نزل الرماة عن الجبل الا قائدهم ابن جبير رضي الله عنه وتسعة معه ليمارسوا حقهم كبقية الجيش مجتهدين خارج التوجيه النبوي، فكانت الخسارة الكبرى في احد درسا الى يوم الدين لكل العاملين، فليست احد وحدها نهاية التاريخ، وبعد الافادة من دروسها كان الفتح المبين بعد ثلاثة اعوام في الحديبية، ثم كان الفتح الاعظم لمكة بعد سنتين فقط في الثامنة للهجرة.
ايها الدعاة والمصلحون، فليبق رماة على الجبل، واحذروا واديموا الحذر، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.