منذ أن حلت نكبة عام 1948، وما خلفته من تشريد للملايين من أبناء الشعب الفلسطيني، بدأ الفلسطينيون رحلة شاقة مليئة بالدموع والدماء، سعوا فيها جاهدين لإثبات وجودهم كشعب يملك الحق في تقرير مصيره، لا مجرد لاجئين يتسولون المعونات الدولية. ومع ميلاد حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 بقيادة منظمة التحرير، حمل الشعب الفلسطيني آماله وسلاحه معاً، في كفاح وطني مسلح وسياسي، أعاد قضيته إلى واجهة الاهتمام العالمي بعد محاولات مستميتة لطمسها. وبفضل نضالات لا تُنسى وتضحيات سطرها الدم، انتزعت المنظمة اعترافاً عربياً ودولياً واسعاً بشرعية تمثيلها للفلسطينيين، لتصبح "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني". ومنذ عام 1974، دخلت المنظمة متاهة دبلوماسية مليئة بالتعقيدات، فتحت خلالها قنوات اتصال سرية وعلنية مع الغرب، بحثاً عن خيط أمل يعيد للفلسطينيين بعض حقوقهم، في عالم بدا في معظمه منحازاً لإسرائيل.
وفي ذات العام، اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة وأقر ما عُرف بـ "برنامج النقاط العشر"، وهو البرنامج الذي مثّل بداية التنازل عن حلم الدولة الفلسطينية على كامل تراب فلسطين التاريخية. وأكد البرنامج على إقامة "سلطة وطنية" على أي شبر يتم تحريره. هنا تحديداً بدأ الدبلوماسيون الأميركيون مثل وليام كوانت، عضو مجلس الأمن القومي، يضغطون لفتح قنوات رسمية مع المنظمة، لكن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بقي متصلباً، وأبرمت واشنطن مذكرة تفاهم مع إسرائيل تؤكد أنها لن تعترف بمنظمة التحرير أو تفاوضها ما لم تعترف المنظمة بحق إسرائيل في الوجود وتقبل قراري مجلس الأمن 242 و338.
ثم جاءت الانتفاضة الأولى عام 1987، هزّت الضمير العالمي، لتقول إن القضية الفلسطينية لا تزال حية تنبض، وإن الشعب الفلسطيني لم ولن يموت أو ينسى. صنعت الانتفاضة مناخاً بدا أنه سيدفع مسار التسوية خطوة إلى الأمام، فانتهى الأمر باتفاق أوسلو عام 1993. غير أن الفلسطينيين، وبعد ثلاثين عاماً من هذا الاتفاق، وجدوا أنفسهم أسرى لوهم دولة لم تولد، وسلطة فقدت مقومات بقائها، وواقع احتلال ازداد قسوة وتغولاً، بينما التزمت إسرائيل فقط بما يخدم أطماعها، وواصلت مصادرة الأرض وقمع الإنسان.
أما في سوريا، فقد ظلت الصورة مختلفة ظاهرياً لكنها مأساوية بذات القدر. فالنظام السوري، الذي مارس القمع على شعبه، وحاول السيطرة على القرار الفلسطيني بتهميش منظمة التحرير، حافظ على عدائه المعلن لإسرائيل منذ عام 1970، وخاض حرب 1973 إلى جانب مصر لاستعادة الأرض، لكنه خسر الجولان، وبقيت القضية مجمدة بلا حل. طوال عقود، استخدم النظام شعار "الممانعة" لتثبيت حكمه، وإن اختلطت هذه الممانعة بالشعارات الجوفاء والمزايدات. واليوم، بعد حرب أهلية مدمرة غيّرت وجه سوريا، يجد النظام الجديد، الذي تسلم السلطة في أواخر 2024، نفسه في وضع مأساوي. فما زال عمر هذا النظام لم يتجاوز العام، لكنه يواجه كارثة جديدة بعد أن بسطت إسرائيل سيطرتها على مساحات واسعة من الجنوب السوري، بما فيها مناطق تشكل العمود الفقري للأمن القومي السوري.
بحثاً عن طوق نجاة، اندفع النظام السوري الجديد إلى محاولة كسب شرعية دولية وعربية بأي ثمن، وبدأت عواصم خليجية وغربية تبارك هذه الخطوات بعد ما سُمي بـ "إعادة تأهيل" الرئيس الجديد، الذي جرى تقديمه فجأة للعالم كرجل دولة يسعى للسلام، بعد أن كان يوصف حتى الأمس القريب بالإرهابي. واليوم، في مشهد يثير الذهول، تؤكد المعطيات أن دمشق الجديدة تتجه بخطى مسرعة نحو توقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل. ليس على غرار أوسلو الذي حاول أن يقدّم على الأقل واجهة سلام، بل نحو تطبيع كامل للعلاقات السياسية والاقتصادية وربما حتى الأمنية. ويبدو أن واشنطن تتزعم جهود ضم سوريا إلى ما يسمى "حلف إبراهيم"، وهو ما أكده المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف حين قال لقناة "سي إن بي سي": "إن الإدارة الأميركية تأمل في تحقيق تطبيع مع دول لم يكن لأحد أن يتصور انضمامها"، وأضاف بعبارات لا تخلو من التلميح: "إعلانات كبيرة قادمة".
وبالطبع، فإن للنظام السوري الجديد شروطه، كما تقول التقارير. فهو يريد اعترافاً إسرائيلياً رسمياً بحكومته، وانسحاباً كاملاً من الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، ووقفاً شاملاً للغارات الجوية الإسرائيلية، وترتيبات أمنية جنوبي البلاد، إلى جانب ضمانات ودعم أميركي صريح. في المقابل، لا تستبعد تقارير إعلامية، من بينها صحيفة "إسرائيل اليوم"، أن توافق دمشق على الاعتراف بسيادة إسرائيل الدائمة على الجولان المحتل.
إذا كان اتفاق أوسلو ثمرة مريرة لمسيرة طويلة من الكفاح والآمال، فإن ما يُطبخ لسوريا اليوم يبدو وكأنه يولد من رحم الانكسار، بلا قوة تفاوضية، بلا سند شعبي أو عربي، وبلا أي أوراق حقيقية. وما يزيد الأمر مأساوية أن إسرائيل، التي أفرغت أوسلو من مضمونه لصالح مشروعها الاستيطاني والأمني، تبدو مستعدة لتكرار اللعبة مع سوريا. لأن التطبيع، في العقل الإسرائيلي، ليس نهاية للصراع، بل هو بداية لمرحلة جديدة من تكريس الهيمنة، وفرض الوقائع على الأرض.
واليوم، وبعد أن ذاق الفلسطينيون مرارة اتفاق بلا دولة، وسلطة بلا سيادة، وسقوطاً تدريجياً للشرعية، لا بد أن نسأل: ماذا ينتظر سوريا إذا ما سارت في الدرب ذاته؟ هل سنرى نظاماً يتحول من خصم لإسرائيل إلى حارس لمصالحها على حدوده الجنوبية؟
إن التجربة الفلسطينية، بكل آلامها، تشير بوضوح إلى إن تطبيع سوريا مع إسرائيل سيكون تكراراً للكارثة، وليس خروجاً منها. إسرائيل لم توفر وسيلة لإفشال تطلعات الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، وهي لن تفعل غير ذلك مع السوريين. وإذا كان الفلسطينيون قد صمدوا في وجه هذا المسار ودفعوا الأثمان الباهظة، فإن الشعب السوري مرشح لأن يدفع ثمناً لا يقل مرارة وربما يفوقه، إذا ما ظن أن التطبيع هو مخرج من أزمته، لا بداية لأزمة جديدة.
ويبقى السؤال الذي يجب أن يطرحه كل سوري في قلبه قبل لسانه: أي سوريا ستكون بعد ثلاثين عاماً، أو ربما أقل، من اتفاق تطبيع مع إسرائيل؟ وهل سيكون "السلام" الموعود سوى وهم جديد يُضاف إلى سجل الأوهام الطويل في هذه المنطقة المنكوبة؟