يبدو أن بنيامين نتنياهو يصرّ، في كل خطوة يتخذها، على تعميق مأزق إسرائيل الداخلي والخارجي، وإدخالها في نفق يزداد عتمة يوماً بعد يوم. منذ أن اختار شن الهجوم الأخيرعلى الدوحة لاستهداف وفد حركة حماس للمفاوضات، ضارباً بعرض الحائط معارضة قادة الأجهزة الأمنية. ووفقا لمحللين إسرائيليين فإن الرجل لا يتحرك وفق تقديرات مهنية أو حسابات استراتيجية بقدرما يتحرك بدافع شخصي يائس للنجاة من مأزقه السياسي والقانوني.
الهجوم على الدوحة لم يحقق أهدافه، بل انتهى إلى فشل ذريع أعاد فتح ملفات خطيرة حول صورة إسرائيل في المنطقة والعالم. فقد سارعت الدوحة، التي رعت المفاوضات بين اسرائيل وحماس، إلى إدانة العدوان بشكل صريح، ووجدت دعماً من دول عربية وإسلامية، من بينها تركيا التي اعتبرت العملية عملاً إرهابياً يقوض أي فرص للسلام. حتى السعودية، التي كانت محط أنظار نتنياهو في مسار التطبيع، لم تخفِ انزعاجها من هذا التصعيد الذي وضع أمن الخليج في مرمى الاستهداف الإسرائيلي. هذا التحول عزز القناعة في هذه العواصم بأن إسرائيل، وليست إيران، هي التهديد الحقيقي للأمن القومي للمنطقة، وهو تحول استراتيجي قد ينسف الجهود التي بذلتها تل أبيب على مدار السنوات الأخيرة لتوسيع دائرة التطبيع.
لكن نتنياهو، الذي يعيش أسير طموحه الشخصي وهاجس البقاء في السلطة، يواصل الحرب على غزة مهما كان الثمن. هو لا يبحث عن حل سياسي أو إنساني بقدر ما يسعى إلى صناعة صورة البطل المنتصر في وعي قاعدته الانتخابية اليمينية، تلك القاعدة التي لا يهمها سوى رؤية الدم الفلسطيني يسيل دون توقف. إنه يراهن على أن النصر العسكري، أو حتى وهم النصر، كفيل بانتشاله من مستنقع قضايا الفساد والملفات القضائية التي تلاحقه في المحاكم الإسرائيلية.
ما يتجاهله نتنياهو أن هذه الحرب المستمرة قد أنهكت إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وزادت من عمق الشرخ بين المؤسسة السياسية التي يقف على رأسها وبين المؤسسة الأمنية التي ترى أن الاستمرار في هذا النهج لا يحمل أي أفق للنصر. ذروة هذا التباين ظهرت مع إصرار نتنياهو على شن حملة عسكرية واسعة لاحتلال مدينة غزة، في وقت تحذر فيه القيادات العسكرية من ثمن هذه المغامرة. رئيس الأركان، إيال زامير، قالها بوضوح: الجيش قادر على احتلال غزة، لكنه غير قادر على هزيمة حماس.
بحسب قادة عسكريين إسرائيليين فإن الاحتلال الكامل لمدينة غزة سيكلف الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية باهظة، فيما ستدفع غزة ثمناً مروعاً من أرواح المدنيين ومعاناتهم. هذا السيناريو لن يمر دون أن يستدعي موجة إدانة غير مسبوقة من المنظمات الحقوقية الدولية، التي ستكثف جهودها نحو ملاحقة المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين في المحاكم الدولية. تركيا وماليزيا أعلنتا دعمهما لمساعي محاكمة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، بينما الاتحاد الأوروبي عبر العديد من مؤسساته عن قلق بالغ من استمرار التصعيد العسكري في غزة، مؤكداً ضرورة الالتزام بالقانون الدولي وحماية المدنيين، فيما هددت بعض الدول الأوروبية بفرض عقوبات على شخصيات إسرائيلية متورطة في ارتكاب جرائم حرب. الأمين العام للأمم المتحدة دعا بدوره إلى وقف فوري لإطلاق النار، محذراً من أن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية سيزيد من تفاقم أزمة اللاجئين ويعقد جهود السلام في الشرق الأوسط.
إن عمق الأزمة يتجلى في الرمزية التي باتت تلاحق إسرائيل في كل مكان. فمثلا عندما سيتوجه نتنياهو إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن الطائرة التي ستقله لن تمر في أجواء العديد من الدول، استشرافاً لاحتمال منعها من دخول مجالاتها الجوية. هذه الإشارة ليست بروتوكولية فحسب، بل تعبير عن عزلة متزايدة لإسرائيل على المستويين الرسمي والشعبي.
الأمر الآخر أن الإسرائيليين أنفسهم باتوا يشعرون بوطأة هذه العزلة. وسائل إعلام عبرية أفادت مؤخراً عن أن السياح الإسرائيليين في دول عدة حول العالم، خاصة في أوروبا وأمريكا اللاتينية، يفضلون إخفاء جنسيتهم خشية الاعتداء عليهم، وهو أمر غير مسبوق بالنسبة لدولة كانت لعقود تتباهى بأنها محمية أمريكية وغربية لا يجرؤ أحد على المساس بمواطنيها.
هذه التطورات لا تعكس فقط فشل سياسات نتنياهو، بل تكشف عن أزمة وجودية تضرب إسرائيل في عمقها. فهي لم تعد قادرة على تسويق نفسها كضحية أو كواحة ديمقراطية في ما تصفه بـ "صحراء الشرق الأوسط الاستبدادي" ، بل أصبحت في نظر الكثيرين دولة مارقة، تضرب بالقانون الدولي عرض الحائط وتتمادى في القتل والتدمير دون أي رادع. كلما أصر نتنياهو على استراتيجياته، كلما تراكمت الأدلة على أن إسرائيل تسير بخطى ثابتة نحو عزلة دولية خانقة.
اللافت أن هذا المأزق لا يقتصر على الساحة الخارجية فقط، بل يضرب الداخل الإسرائيلي أيضاً. فالإصرار على مواصلة الحرب رغم الخسائر يضاعف من الانقسام الداخلي، ويعزز الشكوك في جدوى القيادة الحالية. الشارع الإسرائيلي بات يزداد قناعة بأن نتنياهو لا يقود إسرائيل لصالحها، وإنما يقودها لصالح نجاته الشخصية. الانقسامات تتعمق بين التيار اليميني الداعم له، والمؤسسة الأمنية والشارع الإسرائيلي الذي يدرك أن الاستمرار في هذه المغامرات قد يهدد بقاء إسرائيل ذاته على المدى البعيد.
نتنياهو برأي سياسيين ومحللين إسرائيليين لم يعد مجرد زعيم مثير للجدل، بل أصبح عبئاً على إسرائيل نفسها. سياساته العمياء، وهجماته المتهورة، وحروبه المفتوحة، كلها عوامل تسهم في تعميق مأزق إسرائيل وتوسيع عزلتها الدولية. لم يعد الحديث عن عزلة إسرائيل مجرد دعاية معادية كما كان يُصوَّر في السابق، بل صار حقيقة ملموسة تتجلى في مواقف الدول الكبرى والإقليمية على السواء.
قطر، التي تعرضت أراضيها للعدوان، والسعودية التي صارت أكثر حذراً في مقاربة التطبيع، وتركيا التي صارت رأس حربة في الهجوم الدبلوماسي على تل أبيب، كلها شواهد على أن عزلة إسرائيل لم تعد احتمالاً بل واقعاً يتكرس يوماً بعد يوم. كما أن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عبّرا بوضوح عن رفضهما لسياسات نتنياهو العدائية، مما يضع إسرائيل في مواجهة ضغوط دبلوماسية لم تشهدها منذ عقود.
إن المأزق الذي يعيشه نتنياهو ليس شخصياً فحسب، بل هو مأزق دولة بكاملها، دولة قد تجد نفسها في السنوات القادمة مضطرة لمراجعة جذرية لمسارها. وترى النخب السياسية والإعلامية الإسرائيلية أن استمرار نتنياهو في القيادة هو وصفة جاهزة لمزيد من العزلة والانحدار، وربما لفقدان إسرائيل قدرتها على المناورة والبقاء ككيان يحظى بشرعية دولية.




