في أرضٍ تحتضن ذاكرة الحضارات، من مملكة الأنباط إلى عبق الرومان، ومن ضفاف المعمودية إلى قلاع الصليبيين، يمشي الزائر فوق ترابٍ تتحدث حجارته قبل أن يتحدث المرشد السياحي. ومع ذلك، لا تزال هذه الأرض تُروى بالغياب، ويظل كنزها الحقيقي طيّ الإهمال، وكأننا لا ندرك أن عند كل منعطف تاريخي، تنتظرنا فرصة لم تُستثمر.
في أيار 2025، قرأت الرقم المنشور عن عدد السياح القادمين إلى الأردن: 571 ألف زائر دولي. ارتفع الرقم بنسبة 27.1% مقارنة بنفس الشهر من عام 2024. لكنني لم أشعر بالفخر، بل شعرت بالخذلان.
هذا الرقم - الذي كان يفترض أن يكون جرس إنذار - جرى تسويقه كإنجاز وطني! أي منطق يجعلنا نصفّق لنصف مليون زائر في شهرٍ، ونحن نملك جغرافيا تتوق لاستقبال الملايين؟ نحن أمام مأساة فكرية، لا نقص في الموارد. أمام خللٍ في الرؤية، لا في الإمكانيات. نحن لا ندرك بعد، أو لا نريد أن ندرك، أننا نجلس على منجمٍ من ذهب سياحي، لكننا نتعامل معه كما يتعامل طفل مع قطعة ألماس لا يعي قيمتها.
نصف مليون سائح يجب أن يكون عنوان فشل لا عنوان فخر. نحن لا نعيش أزمة موارد، بل أزمة وعي وجرأة وطموح. خمسون مليون سائح في عام 2035: هل هو ضرب من الخيال أم استدعاء للحقيقة؟ البعض سيسخر من الرقم ويقول: "أين نحن من خمسين مليون؟". لكن لو قيل في عام 1980 إن دبي ستصبح أيقونة السياحة العالمية، لقالوا عن القائلين مجانين.
الفارق بين الحلم والواقع ليس في المسافة، بل في نوعية التفكير. نحن لا نحتاج إلى معجزة، بل إلى خطة ثورية تُحرّرنا من قيودنا الذهنية.
- فرنسا تستقبل أكثر من 90 مليون سائح سنويًا.
- تركيا تخترق حاجز الـ50 مليون.
- الإمارات تجاوزت 20 مليون سائح، وقد بُنيت من الصفر.
الأردن، بما يملكه، يجب ألا يكون مجرد بلد سياحي، بل وجهة لا بد منها.
ولكن... السؤال المرعب: لماذا لا نُحقق ذلك؟
هنا نمارس أندر ما يمكن في العالم العربي: نقد الذات بلا رحمة.
- الدولة مقصّرة: تُدار السياسات السياحية بعقلية الموظف. لا توجد رؤية سياحية رقمية، ولا خارطة طريق لاستثمار الكنوز المخبّأة في جنوب المملكة وشرقها. البنية التحتية ما زالت متأخرة، والإجراءات البيروقراطية معطلة.
- القطاع الخاص مقصّر: يلهث وراء الربح السريع، لا الاستثمار المستدام. الفنادق تُبنى وتُدار بعقلية الثمانينات. والمشاريع السياحية تفتقر للابتكار، ولا تسوّق لروح المكان، بل تُعيد تدوير القوالب القديمة.
- المواطن مقصّر: نعم، نحن أيضًا نتحمل المسؤولية. لا نحترم السائح كما ينبغي. من سائق التكسي الذي يضاعف الأجرة، إلى المطعم الذي يقدم طبقًا باهتًا، إلى البائع الذي يرى في كل سائح فريسة مالية. نفتقر لثقافة الترحيب.
- سياسات الجمارك وضريبة المبيعات: ما زالت تُثقل كاهل المستثمرين والعاملين في القطاع السياحي. بدلًا من أن تكون محفزًا للنمو، تُعدّ واحدة من أبرز العقبات. المعدات السياحية تُعامل كالكماليات، وتُفرض عليها رسوم عالية، مما يضعف تنافسية الأردن مقارنة بجيرانه.
نحن نعيش في دولة تنتظر المساعدة، بدل أن تُصدر السياحة كمورد استراتيجي. نطلب المنح والمساعدات، بينما نملك البحر الميت، والبترا، ووادي رم، والمغطس، وآثار الرومان، وقلاع الصليبيين، وصحراء الشرق التي تشبه المريخ.
الخلل ليس في الجغرافيا... بل في الجغرافيا الذهنية.
ما الحل؟ وهل هناك أمل؟
الحل ليس ماليًا فقط، بل عقلي وثقافي وفكري. نحتاج إلى ثورة داخلية تسبق أي خطة خارجية:
1.فلسفة جديدة لإدارة السياحة:
-يجب أن تُدار بعقلية الشركات الكبرى، لا بعقلية المكاتب الحكومية.
-نحتاج إلى وزراء يؤمنون بالرؤية، لا بالمنصب.
2.تدريب وطني شامل:
-تدريب سائقي التكسي.
-تثقيف موظفي الفنادق والمطاعم.
-نشر ثقافة "السائح شريك لا زبون".
3.إستراتيجية تسويقية عالمية:
-أين حملات الترويج الدولية؟ أين الأردن في الإعلانات العالمية؟
-نحتاج إلى محتوى مرئي ومكتوب يتحدث بلغة العالم، لا بلغة الرتابة والبيروقراطية.
4.تحفيز الاستثمارات النوعية:
-إعفاءات ضريبية حقيقية لمشاريع مبتكرة.
-إطلاق مناطق سياحية حرة.
-تسهيل إجراءات الترخيص، وتخفيض تكاليف الجمارك وضريبة المبيعات على المكونات السياحية.
5.إحياء الفخر الوطني:
-يجب أن نؤمن نحن أولًا بقيمة بلدنا.
-عندما يحترم المواطن وطنه، سيحترمه العالم.
الخلاصة:
الثورة التي لا تبدأ من العقل، لا تبدأ أبدًا.
السياحة ليست ترفًا، بل سلاح اقتصادي، وبوابة سيادية، ومرآة لروح الأمة.
نحن لا نملك ترف الانتظار. عام 2035 على الأبواب. والسؤال الجوهري:
هل سنكون بلدًا يزوره خمسون مليون سائح؟ أم بلدًا يصفق لنصف مليون؟
نحن بحاجة إلى ثورة لا تُقصي أحدًا، بل تُشرك الجميع: الدولة، القطاع الخاص، المواطن، وحتى السائح.
الثورة التي نحلم بها، لا تُبنى على البيانات، بل على الوعي والإرادة والتصميم على كسر الجمود.
فهل نبدأ اليوم؟ أم نؤجل اليقظة مرة أخرى؟
كابتن اسامه شقمان