مثل أي مفهوم نسبي، كان "النصر” في الحروب دائمًا موضع نقاش فلسفي وتأويل سياسي وتأمّل تاريخي. ما الذي يُشكل النصر حقًا؟ هل هو تحقيق الأهداف الإستراتيجية، أم تحقيق منجزات تكتيكية، أم تدمير قدرة العدو على القتال، أم مجرد بقاء شعب أو قضية؟ ونجد أنفسنا في هذا الإقليم، في هذه الأوقات، مباشرة في مواجهة تعريف النصر وما يطرحه من أسئلة. وليست أسئلة النصر في حالتنا ترفًا فلسفيًا؛ إنها في الواقع تحدد مواقفنا الفردية والجمعية، وما يترتب على هذه المواقف من الموافقة على– أو رفض ومعارضة- الوجهات التي تريد أن تحدد مستقبلنا ومستقبل منطقتنا. بل إن تعريفات النصر والهزيمة تصنع توترات اجتماعية تتجلى في حدة المعارضة لصاحب التعريف المختلف، قد تصل إلى حد التخوين والازدراء.
بالنظر إلى نسبية المفهوم، من المؤكد أن يتغير معنى النصر باختلاف طبيعة الصراع المعنيّ، وتباين منظورات الأطراف المنخرطة وتصورها لأهدافها النهائية. وتزداد تعقيدات تعريف المفهوم بشكل خاص في سياقات حروب التحرر والصراعات المناهضة للاستعمار، حيث يتجاوز تعريف النجاح الإطار العسكري التقليدي ومعاييره القابلة للحساب. ومن المؤكد أن يقطع التعقيد شوطًا إضافيًا في سياق الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، باعتباره إباديًا، وجوديًا ولا يقبل القسمة على اثنين، بالتعريف.
في الحروب التقليدية بين الدول، يغلب أن يُقاس النصر بتحليل النتائج الملموسة: السيطرة على الأراضي؛ استسلام قوات العدو أو تدميرها؛ أو فرض شروط سلام مواتية للمنتصر على حساب المهزوم. وعادة ما يكون المنتصرون في هذه الحروب هم أولئك الذين يحققون أهدافهم المحددة مُسبقًا بأقل كلفة مقبولة. لكن هذا النموذج الكلاسيكي للنصر لم يعُد كافيًا في عصر الحروب غير المتكافئة والصراعات الأيديولوجية التي لا تنتهي بخلاصات واضحة.
تطرح حركات التحرر وحروب الاستقلال فهمًا مختلفًا تمامًا للنصر. في هذه الصراعات، لا تكون المؤشرات التقليدية للنجاح في أغلب الأحيان قابلة للتحقيق- بل إنها قد تكون غير ذات صلة. في هذه الصراعات يجعل عدم التكافؤ الهائل في القوة بين القائمين بالاستعمار والمستعمَرين الانتصارات العسكرية بالمعنى التقليدي نادرة- إن لم تكن مستحيلة. وبطريقة ربما تبدو متعارضة مع المنطق القائم على الحسابات الصارمة، أظهرت التجربة التاريخية أن هذه الحركات تتمكن في النهاية من تحقيق أهدافها بأدوات غير تقليدية: المثابرة؛ والصمود، والاستعداد للتضحية، وتعبئة القوى الأخلاقية والفكرية.
في سياقات مناهضة الاستعمار يرتبط النصر بشكل أساسي بمفهوم البقاء والاستمرار. بالنسبة لحركات التحرر، يشكل الحفاظ على وجودها بحد ذاته في مواجهة عدو يفوقها قوة بكثير، والإبقاء على حيوية الهوية والثقافة والهدف المشترك، انتصارًا بحد ذاته. ولا يُقاس هذا النوع من النصر بعدد المعارك التي تُكسب، بل بالقدرة على إدامة النضال على المدى الطويل. والفكرة هي أن شعبًا يناضل من أجل حريته لا يمكن هزيمته طالما لم يخرج من الوجود ولم يستسلم. ولو كانت النضالات ضد الاستعمار تقاس بالمعايير العادية للقوة، لخلص كل شعب تحت الاستعمار سلفًا إلى أن حربَه ستكون عبثية لا يمكن أن تُكسب، ولكانت شعوب كثيرة قد خرجت من التاريخ.
في ما يتحدى المعايير المادية الصارمة للتقييم، يلعب البُعد النفسي دورًا حاسمًا في تعريف النصر في صراعات التحرر. فبينما قد يحقق القائم بالاستعمار انتصارات تكتيكية أو عملياتية، فإن صمود الروح الرافضة للخضوع لدى الشعب المستعمَر يُقوض شعور المستعمِر بالإنجاز. وتدرك قيادات حركات التحرر أن النصر يكمن إلى حد كبير في التصورات، وأنهم بمجرد إظهار صورة المقاومة ورفض الاستسلام، يتحدون شرعية مضطهديهم ويكسبون الدعم الدولي والمحلي.
بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تتجاوز أهداف حركات التحرر هزيمة العدو بالمعنى التقليدي. فالنصر بالنسبة للمستعمَرين يعني استعادة السيادة، والكرامة، وحق تقرير المصير. وتكمن أهمية هذا التعريف غير التقليدي للنجاح في تحديه للسردية الاستعمارية التي تصوِّر الشعوب المستعمَرة –خاصة إذا التزمت السلبية- على أنها غير مؤهلة لحكم نفسها أو بناء دول مستقلة، أو أنها ليست موجودة بقدر يمكن تمييزه بحيث تُطلب لها حقوق من الأساس. ومن خلال إظهار نفسها بجملة وسائلها النضالية، وتأكيد حقها في الوجود كأمم حرة، تحقق حركات التحرر انتصارًا أخلاقيًا ووجوديًا يتجاوز المعطيات المباشرة لميدان المعركة.
كما يبرز هذا الفهم الأوسع للنصر الاختلاف في كُلفة الصراعات بين القائم بالاستعمار والمستعمَر. بالنسبة للقائم بالاستعمار، خاصة في الاستعمارات التقليدية، غالبًا ما تكون الحرب مسألة مصلحة سياسية أو اقتصادية. أما بالنسبة للمستعمَر، فهي نضال وجودي من أجل البقاء نفسه، فيزيائيًا وتاريخيًا. ويُنتج هذا الاختلاف مفهومًا خاصاً بهذه السياقات يُسميه البعض "النصر في الهزيمة”.
يشير مفهوم "النصر في الهزيمة” في السياقات الاستعمارية إلى قدرة الشعوب المستعمَرة على تحويل هزائمها الظاهرة إلى انتصارات معنوية وسياسية تعزز صمودها ومقاومتها. وعلى الرغم من الخسائر العسكرية أو الاقتصادية، تُظهر هذه الشعوب إرادة مستمرة في مواجهة الهيمنة، بطريقة تضمن زرع الشكوك في شرعية المشروع الاستعماري وتقوض استقراره على المدى البعيد.
يمكن أن تصبح التضحيات الجماعية رمزًا للوحدة الوطنية، أو أن يؤدي القمع الوحشي إلى فضح الوجه الحقيقي للاستعمار أمام العالم، وبالتالي إكساب قضية التحرر دعمًا دوليًا إضافيًا مثمرًا. وبهذا المعنى يُعيد المستعمَر تعريف النصر بعيدًا عن الحسابات المادية ليجعله انتصارًا أخلاقيًا وإستراتيجيًا على المدى الأطول للصراع. صحيح أن الشعب المستعمَر يعاني من آلام هائلة، لكنه يخرج بصحوة جديدة لهويته وهدفه. وعلى الجانب الآخر، قد يربح المستعمِر عسكريًا، لكنه يخسر سياسيًا وأخلاقيًا وإستراتيجيًا، كما رأينا في حرب الجزائر أو حرب فيتنام، ومعظم النضالات المناهضة للاستعمار.
في حروب التحرر، لا بد أن يرتبط مفهوم النصر بالتأثير العالمي، حيث الصراع في السياق الاستعماري مشروط موضوعيًا بعدم تكافؤ القوى المادية وحاجة الأضعف إلى الحشد لقضيته. ومن المؤكد أن حركات التحرر، عندما تشتبك، تلهم التضامن وتعيد تشكيل المعايير الدولية. وقد أسهمت نجاحات هذه الحركات، تاريخيًا، في إضعاف شرعية الاستعمار كنظام سياسي، وبذلك إجبار حتى أقوى الإمبراطوريات على التخلي عن طموحاتها في السيطرة على الأراضي. وأفضت هذه الانتصارات إلى ظهور دول جديدة، وصعود الجنوب العالمي، وتطور القانون الدولي ليشمل مبادئ تقرير المصير وحقوق الإنسان– ولو بدرجات متفاوتة من التطبيق.
وإذن، سوف يكون مفهوم النصر في الحرب انعكاسًا للسياق الأوسع الذي يجري فيه النزاع. في الحروب التقليدية، قد يتحدد بمقدار تحقيق الأهداف الإستراتيجية أو الإقليمية. لكنه في حروب التحرر يتحدد إلى حد كبير بالتأكيد على الإنسانية واستعادة الكرامة وتحقيق الاستقلال، ويبرز القوة التحويلية لإرادة لنضال ضد القهر. وكان إرث انتصارات حركات التحرر دائمًا مصدرًا تراكميًا لإلهام الذين يكافحون ضد الهيمنة والظلم الذين يظهرون في كل العصور، برغم كل الأضداد. ويصبح النصر في هذا السياق ليس نقطة، وإنما عملية مستمرة لتأكيد الحق في الوجود والمقاومة، كخيار بديله الانتحار التاريخي.