من السلمية إلى العسكرة عادت سورية لتحتل صدارة المشهد إقليميا وعالميا. وكان السقوط السريع والمفاجئ للنظام الذي حكمها لأكثر من نصف قرن حدثا زلزاليا صرف الانتباه حتى عن الإبادة الجماعية التي ينفذها الكيان الصهيوني في غزة. ومع أن سورية كانت معزولة في السنوات الأخيرة، وارتبط ظهورها في الأخبار بمحاولات استعادتها عربيا –وأكثر بغارات الكيان المتكررة عليها- أصبحت دمشق الآن العنوان الرئيسي ووجهة الوفود الاستكشافية من دول الإقليم والعالم. كما أصبحت موضوعا مطروقا بكثرة من المحللين السياسيين والمعلقين من مختلف الأماكن، الذين يحاولون الإجابة عن تنويعات سؤال "ماذا تاليا في سورية".
والاهتمام بسورية مستحق، وهي التي كانت تاريخيا، وما تزال، حاضرا بالغ الأهمية في الجغرافيا الحيوية والسياسية العربية والإقليمية. لكن المشهد السوري تشابك في السنوات الأخيرة منذ "ربيع سورية" بطريقة يتعذر تفكيكها تقريبا. وقد تسبب هذا التشابك المربك لمصالح وأعمال الكثير من القوى الخارجية والداخلية التي تتصارع فيها وعليها في إثارة جدال مستمر، داخلي وخارجي أيضا طوال هذه السنوات، بين اتجاهين بشكل رئيسي: أنصار النظام، وهي تسمية فضفاضة شملت الذين يدافعون عن عدم التدخل الخارجي في البلد ويعبرون عن القلق من أجنداته؛ وأعداء النظام، الذين يرون أن الحكم في سورية هدف في حد ذاته، بغض النظر عن الطريقة والفاعلين والنتائج "الجانبية" وأي أجندات ربما ترتب لسورية.
عندما اشتعلت شرارة "الربيع العربي" في العام 2011 وشرع الحريق في الانتشار، كان المراقبون الدوليون، والسوريون أنفسهم، يعتقدون أن سورية هي آخر بلد يمكن أن تصله الثورة. ولذلك كان انطلاق بدء الحراك السوري في العام 2011 مفاجئا –وأكثر من ذلك تسارع مساراته التي خرجت عن نطاق السيطرة في وقت قياسي.
بدأ الحراك باحتجاجات شعبية سلمية طالبت بإصلاحات سياسية محدودة، لكنه ووجه باستخدام الحكومة القوة المفرطة، فتحول سريعا إلى العمل المسلح، موفرا للحكومة ذريعة لتبرير استخدامها للقوة المفرطة. ومنذ تلك اللحظة، ذهبت المواجهة إلى تصعيد غير مسبوق. وكان هذا التحول هو الذي فتح الباب أمام التدخلات الخارجية المذهلة، حيث هرولت قوى متعارضة ظاهريا لتصبح سورية أوسع ساحة لصراع إقليمي ودولي، مع تدفق السلاح والمقاتلين لدعم الأطراف المتنازعة، وحول القضية من حراك شعبي عادي إلى حرب أهلية وحرب بالوكالة تعززت فيها كل الأجندات الخارجية على حساب مطالب الشعب. وقد أعادت الأحداث السورية منذ ذلك الحين تشكيل المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط، وخلفت في أعقابها دولة ممزقة ومنهكة تحاول الإفلات من قبضة سنوات طويلة من الحرب.
في وقت مبكر من الحراك، برزت آراء مؤيدة لتسليح المعارضة باعتباره الوسيلة لمواجهة قمع النظام. وجادل ساسة ومفكرون بأن التحول إلى العمل المسلح قد يكون ضروريا لحماية المدنيين وتحقيق التغيير المنشود. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، دعا السيناتور الأميركي جون ماكين إلى تسليح المعارضة السورية، معتبرا أن ذلك سيعزز قدرتها على مواجهة قوات النظام. وقال ماكين في العام 2012: "يجب علينا تقديم الدعم العسكري للمعارضة السورية، بما في ذلك الأسلحة والتدريب، لتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم ضد هجمات النظام الوحشية".
ومن المحللين الذين رأوا في عسكرة الثورة وسيلة لتسريع من سقوط النظام، كان الباحث تشارلز ليستر، الذي كتب في العام 2013: "إن تقديم الدعم العسكري للمعارضة المعتدلة يمكن أن يغير موازين القوى على الأرض، ويدفع النظام إلى التفاوض على انتقال سياسي".
كان أساس هذه المواقف هو الاعتقاد بأن التسليح قد يوفر للمعارضة وسائل فعالة لمواجهة التفوق العسكري للنظام، ويزيد من الضغط عليه لتحقيق إصلاحات أو التنازل عن السلطة. ومع ذلك، أثارت هذه الاستراتيجية جدلا واسعا حول تداعياتها المحتملة على مسار الصراع ومستقبل سورية –أو على الأقل تعريف "الاعتدال" المفترض في المعارضة الجديرة بالدعم.
كان تعريف "المعارضة المعتدلة" في الصراع السوري مرنا ومتغيرا، وصاغته القوى الخارجية المختلفة المتدخلة استنادا إلى مصالحها الاستراتيجية ورؤيتها للدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المعارضة في تحقيق أهداف هذه القوى نفسها. وكان هذا التعريف مزيجا من الاعتبارات العسكرية والسياسية والأيديولوجية، واستخدم لتبرير دعم فصائل معينة دون غيرها.
ركزت واشنطن وحلفاؤها على دعم فصائل تعتبرها متوافقة مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع الحرص على أن تكون هذه الفصائل منفصلة عن الجماعات المتشددة مثل تنظيم القاعدة أو "داعش". وفي العام 2014، أعلنت الولايات المتحدة عن برنامج تدريب وتسليح بملايين الدولارات لدعم المعارضة المعتدلة. وكان الهدف المعلن هو تقوية هذه الفصائل لمواجهة النظام السوري والجماعات الإرهابية على حد سواء. وأشار جون كيري، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، إلى أن "المعارضة المعتدلة هي من يمكننا العمل معها لتحقيق انتقال سياسي في سورية".
من جهتها أعادت تركيا –ربما اللاعب الأهم الآن في الساحة السورية- صياغة "المعارضة المعتدلة" لتشمل الفصائل التي تتماشى مع أهدافها الإقليمية، خاصة في مواجهة الطموحات الكردية. واعتبرت أنقرة بعض الفصائل مثل "الجيش السوري الحر" نموذجا للمعارضة المعتدلة، ودعمتها عسكريا وسياسيا، مع استبعاد القوى الكردية التي تصنفها على أنها إرهابية، على الرغم من مشاركتها في قتال النظام. وصرح الرئيس التركي أردوغان في أكثر من مناسبة بأن "تركيا تدعم المعارضة المعتدلة التي تمثل صوت الشعب السوري، وتواجه النظام والجماعات الإرهابية.
كما تدخلت الدول العربية بطرق وأشكال مختلفة في الصراع السوري، على أساس فهمها الخاص للاعتدال. بالنسبة للمملكة العربية السعودية وقطر، تم تعريف "المعارضة المعتدلة" بشكل فضفاض، وغالبا ما كان يشمل فصائل ذات طابع إسلامي، طالما أنها لا ترتبط مباشرة بتنظيمات إرهابية عالمية. ودعمت السعودية بعض الفصائل مثل "جيش الإسلام"، بينما ركزت قطر على دعم مجموعات أخرى مثل "أحرار الشام"، مع تبرير ذلك بأنها فصائل تمثل قيمًا إسلامية من دون أن تكون متطرفة. وقد أشار وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أشار في العام 2015 إلى أن "المعارضة المعتدلة هي تلك التي تسعى إلى بناء سورية جديدة، دون تطرف أو إرهاب".
أما روسيا وإيران، وعلى الرغم من معارضتهما الشديدة لأي دعم للمعارضة، فقد حاولتا استغلال المصطلح بطريقة معاكسة، معتبرتين أن غالبية الفصائل المسلحة في سورية لا يمكن تصنيفها كمعتدلة. ووصفت موسكو المعارضة المعتدلة بأنها "وهم"، وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في العام 2016: "نحن لا نرى على الأرض معارضة معتدلة حقيقية، بل مجموعات تتعاون مع الإرهابيين".
وقد تراوحت تبريرات الدعم بين حماية المدنيين، ومواجهة الإرهاب، وإحداث توازن عسكري يجبر النظام على تقديم تنازلات سياسية. وبررت القوى الخارجية تدخلها أيضا بأنه دعم لعملية انتقال سياسي وفقا لقرارات الأمم المتحدة، على الرغم أن مفهوم "المعارضة المعتدلة" غالبا ما تم استخدامه كغطاء لتبرير مصالحها الجيوسياسية الخاصة.