يطول البحث في أسباب الحب بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. لكن أحد الأسباب هو الاشتراك في نفس الأمّ، حيث خرجتا من رحم الاستعمار الاستيطاني، لتعكسا نفس الجينات التاريخية والأيديولوجية و”الأخلاق” و”المبدأ. ويكشف فحص هذه القواسم المشتركة عن تكرار نفس النمط من اغتصاب الأراضي، وتشريد السكان الأصليين، وإنشاء مجتمعات تشرعن الاستيلاء وتعتبره قيمة إنسانية حضارية في مواجهة "الأقل من بشر”.
في هذا السياق، يمكن مقارنة الحصار الوحشي الذي يفرضه الكيان الصهيوني على غزة بالمحنة التاريخية لما تسمى "محمية باين ريدج” الهندية في الولايات المتحدة. وفي الحقيقة، يشتغل الكيان، عن طريق الاستيطان فيما تسمى "الأراضي الفلسطينية مع أنها مستعمرة بنفس المقدار، على وضع الفلسطينيين المتشبثين بالوطن في "محميات” باطراد، مثل الهنود الحمر. وينبغي، إذا أردنا وصف مناطق الضفة المقسمة إلى فئات هيمنة، ومفصولة في معتزلات محاصرة ومزدراة، "محميات” كما هي في الممارسة. حتى أن الماهية المضمرة لـ”الدولة الفلسطينية” التي عام الحديث عنها مؤخرًا ربما يغلب أن تكون "محمية” يُحشر فيها الفلسطينيون، لا لحفظ البقاء بقدر ما هو للخنق وإعدام الإمكانية.
ربما لا يعرف كثيرون أن الولايات المتحدة الحالية ما تزال فيها محميات للسكان الأصليين. وتقع محمية باين ريدج Pine Ridge Indian Reservation في ولاية داكوتا الجنوبية الأميريكية، أغلبية سكانها من نسل الهنود الأصليين. وقد تأسست هذه المحمية كجزء من محمية أكبر تسمى "محمية سبوكس” في العام 1889. وتبلغ مساحة باين ريدج الآن نحو 8,984,306 كيلومتر مربع. وهي سابع أكبر محمية في الولايات المتحدة، حسب (ويكيبيديا).
مثلما يحدث في غزة، استخدام الكيان الاستعماري الاستيطاني نفس الإستراتيجيات في باين ريدج. وقد أخضِعت المحمية هي أيضًا للحصار الاقتصادي كوسيلة لممارسة السيطرة، مما حد من توفر الضروريات الأساسية. كما واجهت تهميشًا اقتصاديًا عقد وصول السكان الأصليين إلى الموارد والفرص.
وكما هو الحال في غزة، خضعت المحمية الهندية للتحكم العسكري القاسي. وتميز تاريخها بالتواجد الكثيف للقوات العسكرية– بل إنها تعرضت للعديد من المجازر أيضا، يشير المؤرخون منها بشكل خاص إلى ما تسمى مذبحة "الركبة الجريحة” في العام 1890. وتشير المصادر إلى أن قوات سلاح الفرسان الأميركية حاصرت مجموعة من الهنود الحمر بهدف نزع سلاحهم. وعندما رفض أحدهم تسليم بندقيته وانطلقت طلقة بالخطأ في الفوضى، فتح الأميركان النار العشوائية ليتساقط القتلى من الرجال والنساء والأطفال. ورد الهنود الذين ما يزالون يحتفظون ببنادقهم، فقط ليسحقهم الجنود ويقع نحو 300 ضحية. وفي المقابل، خسر الجنود نحو 25، معظمهم بـ”نيران صديقة” بسبب الاضطراب. القصة تتكرر.
ولم يتحسن حال "المحمية”، حيث عانت دائمًا من ارتفاع معدلات الفقر، ومحدودية مرافق الرعاية الصحية، وظروف المعيشة المتدنية، والفارق الاجتماعي والاقتصادي الهائل عن مجتمع المستعمرين البيض. كما دأب النظام الاستعماري الأميركي على محاولات محو الثقافة الأصلية في باين ريدج، وتعطيل أساليب الحياة التقليدية والاستيعاب القسري للسكان وتمييع هويتهم.
بطبيعة الحال، كان لا بد أن يعاني المجتمعان، الفلسطيني والهندي، من الصدمة التاريخية التي لا بد أن يتركها التهجير القسري، والعنف المنهجي، وانتزاع أراضي السكان الأصليين وسرقة مواردهم، إنهما في النهاية ضحايا لنفس متطلبات السياقات الاستعمارية الاستيطانية الإبادية. لكن حظ الفلسطينيين أفضل بالتأكيد من الهنود –حتى مع أنهم تحت هجوم تحالف غريب من القوى العالمية وغير العالمية الساعية إلى إلغائهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، الخبيرة في أساليب إبادة السكان الأصليين.
صمد الفلسطينيون. لكن عليهم الآن صيانة صمودهم بالحذر الشديد من خدع الاستعمار، ومقاومة كل وسيلة لتكرار نمط "المحميات” عليهم في أي عرض مستقبلي لإقامة دولة أو غير ذلك. وعليهم بشكل خاص مقاومة اقتراحات الصديق قبل العدو والتشبث بشدة ببقائهم التاريخي كشعب، الذي حققوه بالدم والدموع، كمسألة وجود.
كان في "أوسلو” ومخلفاتها درس قاسٍ ينبغي عدم تكراره، هو ضرورة تسمية الأشياء باسمها. لا ينبغي طباعة ورق رسمي واهِم ومزور يتظاهر بما ليس فيه، مروس بعبارة "دولة فلسطين” عندما يكون الأفضل "محمية الضفة وغزة”. بعد كل هذا التعب والضحايا، يستحق الفلسطينيون أكثر بالتأكيد من محمية، ولا يمكن أن يوضعوا في محمية. سوف يجدون دائمًا طريقة لهدم الأسيجة والأسوار.