فسبق وأن أعلن رئيس الوزراء اللبناني السابق، حسان دياب، في 9 آذار/ مارس 2020، توقف البلاد عن سداد ديونها الخارجية، وهو ما يعني ضمناً تعثرها وإفلاسها من الناحية العملية.
تبدو المفارقة اليوم، أن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول لبناني مباشرة وبهذا الوضوح عن إفلاس دولة ومؤسساتها المالية ومنها البنك المركزي، وهي بالطبع مفهومة نتيجة الأوضاع المالية المتردية داخل لبنان الذي يعيش أزمة اقتصادية ومالية حادة ونقص شديد في السيولة المالية لم يشهدها حتى خلال الحرب الأهلية (1975 ـ 1990).
مرحلة الانهيار التي دخلتها البلاد على مستوى القطاعات كافة خاصة المالية، وما تبعها من مصادرات البنوك لأموال المودعين منذ نحو عامين وأكثر، فرضت قيوداً شديدة على عمليات السحب النقدي خاصة بالدولار، ووضعت سقوفاً قاسية على السحب بالعملة المحلية (الليرة).
دع عنك أيضاً، تفشي الفقر والبطالة في البلاد وانهيار الخدمات وارتفاع الأسعار وهروب الأموال والاستثمارات الأجنبية، وتعرض قطاعات حيوية للشلل، في مقدمتها السياحية والاستثمارات المباشرة، فضلاً عن سقوط الدولة تدريجياً في مستنقع الديون التي تقارب الـ 100 مليار دولار، في بلد يبلغ عدد سكانه حوالي 7 ملايين إنسان.
في ظل كل ذلك؛ فإن الأخطر هو التوقيت الذي أعلن فيه المسؤول الحكومي اللبناني إفلاس الدولة، ما أثار الكثير من المخاوف حول مصير البلد في المستقبل، وماذا يعنيه ذلك؟ في وقت يخوض لبنان مفاوضات مع صندوق النقد الدولي منذ شهور عديدة على برامج إنقاذ اقتصادية تشترط تطبيق العديد من "الإصلاحات" الجذرية المتعثرة حتى الآن.
* ماذا يعني إفلاس الدولة؟
تصبح الدولة "مفلسة" فعلياً عندما تعجز على الوفاء بالتزاماتها المالية كـ "رواتب موظفيها وتعاقداتها في تنفيذ المشاريع المختلفة"، وتتعثر أيضاً في دفع قيمة ما تشتريه من الخارج من سلع وبضائع مختلفة، بما في ذلك حاجاتها الأساسية مثل المواد الغذائية والوقود والأدوية، وغيرها.
وعادة؛ يسبب الإعلان عن الإفلاس حالة ذعر تقود إلى هروب أموال المستثمرين إلى خارج البلد، بالإضافة إلى تدافع أصحاب الودائع لسحب أموالهم من البنوك، وهي بالأساس حالة قائمة في لبنان منذ أكثر من عام.
وبإعلان إفلاسها رسمياً؛ فإن الحكومة القائمة "مجبرة" على الذهاب للتفاوض في ظل شروط صعبة مع الجهات الخارجية كصندوق النقد، حيث أنها تطلب إعادة هيكلة ديونها، فيما تضع الجهات الخارجية اشتراطات صعبة وقاسية على جيوب المواطنين.
هذه الجهات، تفرض قبل تقديم مساعداتها المالية تنفيذ الحكومة خطوات مثل تقليص القطاع العام وتسريح الموظفين، وتطبيق سياسات ضرائبية أعلى ورفع الدعم على السلع الأساسية، ما يؤدي إلى تحرير الأسعار، وارتفاعها بشكل هائل.
* لبنان ليست الأولى.. الإفلاس عبر التاريخ
هناك العديد من الدول التي سبق لها أن أعلنت إفلاسها في مختلف القارات بما في ذلك أوروبا، إذ أن ألمانيا مثلاً أعلنت إفلاسها ثماني مرات خلال القرون الثلاثة الماضية، والولايات المتحدة خمس مرات، وكذلك البرازيل والمكسيك والاكوادور والأورجواي وتشيلي ومصر وإسبانيا، بالإضافة إلى برنامج teams روسيا التي أعلنت آخر إفلاس لها في العام 1998 نتيجة تداعيات فشل سياساتها الاقتصادية في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي العام 1991.
عربياً؛ أقرب مثال للحالة اللبنانية اليوم هي تونس الذي بات شبح الإفلاس والتعثر المالي يقترب منها أكثر من أي وقت مضى، وكذلك اليمن وسورية والسودان.
وعلى سبيل المثال؛ لإعلان الدول إفلاسها في الماضي القريب، هناك أيضاً نموذج الأرجنتين التي توقفت في العام 2001 عن سداد ديونها الخارجية التي وصلت نحو 132 مليار دولار، بعدما غرقت في مرحلة كساد استمرت لسنوات أصابت الحكومة بالعجز عن الوفاء بالتزاماتها.
في حينها اضطرت الأرجنتين إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي للحصول على حزم مساعدات بمليارات الدولارات لمحاولة الخروج من أزمتها، وفرض عليها تطبيق إجراءات تقشف قاسية أثارت الكثير من الإضرابات والاحتجاجات الشعبية.
مثال آخر في الماضي القريب، كانت اليونان التي أعلنت إفلاسها في العام 2012، بعدما كانت أعلنت إفلاسها في أعوام (1827، 1843، 1893، 1932)، وللمفارقة لنفس الأسباب التي أدت بها في المرة الأخيرة إلى العجز على الإيفاء بمستحقات ديونها حيث وصل حجم الدين الحكومي إلى 313 مليار يورو، وبإضافة الديون على البنوك والشركات اليونانية، وصل إجمالي الدين إلى نحو نصف تريليون يورو.
* صافرة إنذار.. ودعوة للتعاون.
مفاوضات لبنان مع صندوق النقد، والمجتمع الدولي عموماً، قد تدخل الآن انعطافة كبيرة، تتطلب الالتزام بشروط الصندوق القاسية بمعظمها على جيوب المواطنين وأوضاعهم. ولعل خطورة إعلان الإفلاس عدم وقوفه عند حدود الدولة، وسيكون له ارتدادات على الدول التي تعتمد على القروض والمساعدات، أو تعاني من أزمات مالية واقتصادية حادة، كما يمكن اعتبار حالة الإفلاس هذه صافرة إنذار لدول عربية أخرى تسير على نفس مسار لبنان.
مطلوب اليوم، لفت نظر المجموعات الاقتصادية الدولية المختصة، والتعاون وفق آليات للنهوض من جديد، ومراقبة ودراسة المشاريع المنتجة ودعم كلي لها على المدى القصير، ومساعدة المشاريع الكبيرة على المدى المتوسط والطويل، بالتزامن مع محاربة الفساد في الإدارات والرقابة والمحاسبة، بالإضافة إلى الحد من هدر المال العام، وحفظ وتسديد أموال المودعين كاملة وبالعملة التي أودعوا بها.
يأتي بعد ذلك، في سلم الإصلاحات البدء بإعادة النظر في إدارة الدين العام والحد من زيادة خدمته دون طائل والالتزام باستخدام الديون وفق ما أعطيت لأجله. فللحد من مصائب الدين العام - بحسب مراقبين- أهمية كبيرة باستعادة الأموال المنهوبة والموضوعة في البنوك الخارجية والاستفادة منها في زيادة رأس المال في البلاد.
استعادة ثقة المواطن اللبناني بدولته ومصارفها ومسؤوليها هي "الحجر الأساس" للوصول إلى تغيير جذري في السياسة الاقتصادية الكلية للدولة وتحويلها إلى اقتصاد إنتاجي وزيادة الدعم للقطاعات الزراعية والصناعية والسياحية والتجارية، مع ضرورة تعزيز العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها من حيث الحقوق والواجبات والحماية الاجتماعية والمساءلة، وضرورة التفات الدول العربية لهذه الأزمة واتخاذ إجراءات وخطط وسياسات تعزز العقد الاجتماعي فيها. هنا صوتك