وفق معظم الاستطلاعات والمشاهدات، يميل الرأي العام العربي إلى جانب روسيا في الصراع الحالي بينها وبين الغرب. البعض يعزون هذا الميل إلى عواطف قديمة؛ حنين إلى الزمن الذي وقف فيه الاتحاد السوفياتي مع القضايا العربية تقريباً، وزود الدول العربية بالسلاح، بغض النظر على المصالح الجيوستراتيجية الكامنة وراء ذلك الموقف. والبعض يفسرون الاصطفاف بأنه رغبة شعبية عربية في صعود أي قوى تستطيع الوقوف في وجه الغرب الإمبريالي الذي استعمر العرب قديماً وما يزال يهيمن عليهم ويتدخل ضدهم حديثاً. وسوف يذكِّر أحد بأن روسيا لم تستعمر بلادنا، تاريخياً، ولم تلحق بنا أضراراً مباشرة يمكن أن تقارن بما فعله المعسكر الغربي.
أضاءت الأزمة العالمية الحالية مرة أخرى النزعات العنصرية المتأصلة في نظرة المركزية الغربية إلى العرب، سواء في التمييز على الحدود ضد العرب الفارين من الحرب، أو التصريحات عن البشرة البيضاء والعيون الزرق وما شابه. كما عرَض رد الفعل الأميركي والأوروبي المستغرَق تماماً في دعم أوكرانيا تجلياً جديداً لازدواجية معايير هذه الأمم ونفاقها. فقد وافقت هذه الكيانات على تدمير العراق، وأفغانستان، وسورية، وليبيا واليمن، وقبل ذلك وبعده التطهير العرقي والاحتلال والتشريد المستمر للفلسطينيين، لكنها تقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل شعب تعتبره أوروبياً من جنسها. وقد عبر بطل الاسكواش المصري جيداً عن تساؤلات العرب حين أشار إلى نفاق الإعلام الغربي بتمييزه الفاضح بين أوكرانيا وفلسطين.
وحتى على المستوى السياسي العربي الرسمي، يلاحظ البعض انخفاض ثقة حلفاء أميركا العرب في حليفتهم –سيدتهم المتعالية في الحقيقة- فيحاولون عدم نسف الجسور مع موسكو وبكين كبدائل يغلب أن تكون أقل كلفة. وهناك، بالإضافة إلى العوامل العاطفية والشخصية، ما يشير إليه حتى المراقبون والساسة الغربيون لدى تعقب أصول الأزمة الحالية وتحديد المتسبب الحقيقي فيها. وحسب هذا الرأي، فإن الناتو بقيادة الولايات المتحدة هو الذي وسع حدوده في منطقة النفوذ السوفياتي سابقاً/ الروسي حالياً حد الاستفزاز الصريح. وحسب هذه القراءة، فإن من العدل الاعتراف بمخاوف روسيا على أمنها القومي المهدد من الغرب الذي يستخدم أوكرانيا كقاعدة متقدمة لزيادة التهديد، حتى لو دفع الأوكران أرواحهم فداءً لطموحاته.
ليست الحرب جميلة على الإطلاق. لكن الموقف العملي لا يسأل الناس عما إذا كانوا يوافقون على الحرب أم لا. إنه يسألهم عن رؤيتهم لحرب مستعرة كأمر واقع منفصل عن الأمنيات. وليس العرب العاديون –والرسميون إذا كان ذلك يهم- طرفاً في هذه الحرب ولا هم من مسببيها، لكن مشاهدتها كشيء يحدث في العالَم ولا يمكن تجاهله تستدعي جملة من العواطف والرؤى التي تتخذ أخيراً شكل ميلٍ أو نظرة عالمية. ومن خبرة العرب مع القوى المنخرطة، وعلى قاعدة أن عدو عدوي صديقي، فإن أي طرف يعارض الغرب الاستعماري المعادي صراحة للقضايا العربية سيكون حليفاً تكتيكياً ممكناً، على الأقل.
ثمة حروب يتوجب على العرب أن يخوضوها بأنفسهم، ليس عدواناً وإنما لأن شيئاً لا يُحل في هذا العالم بغير الحرب. هذا عالم يحكمه منطق أن القوة هي الحق. ولدى العرب ما لا يُعد من الحقوق المصادرة منهم بالقوة. وتثبت الأحداث كل الوقت أن ما يؤخذ بالقوة لن يُسترد إلا بالقوة. لكن الحروب إما أنها تُشن على العرب وينهزمون فيها، أو يشنونها هم على أنفسهم من أجل الهيمنة على العربي "الآخر” بينما أقواهم وكيل قِنانة تابع للغرباء. ولذلك تعول الشعوب العربية على تطور الصراعات بين القوى النافذة في العالم، علّها تغيّر شيئاً في التوازنات العالمية لمصلحة حريتهم. وسوف يفكرون في شيء مثل: لو كان الاتحاد السوفياتي موجوداً كقوة عظمى موازنة في العام 2003؛ لو أنه لم ينهزم في أفغانستان، لكان هناك احتمال لتجنب المأساة العراقية و”داعش” وبقية المآسي التي تفارق العرب منذ ذلك الحين.
إذا كانت الحقيقة هي أن العرب لا يستشارون في بدء حروب القوى الكبرى المتنافسة ولا يملكون إمكانية إنهائها، فإن أفضل ما قد يأملون فيه هو أن تسفر هذه التفاعلات عن تخفيف الضعط عنهم. ربما تتعدد الأقطاب وتصعد قوة موازنة يتعلقون بها وتحميهم من هجمة الغرب المستفرد بهم في جملة حماية مصالحها. ففي النهاية، لن يكون بالإمكان أسوأ مما كان.