أخبار البلد ــ في كل تجاربه الحياتية رغم قصرها، والكثيفة بأحاسيسها، كانت فلسطين تحضر وكأنها ضميره وقلبه وعشقه. التمرد على الذل لم يفارقه، ونقل الحبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم.
هذا هو غسان كنفاني، القاص والمسرحي والصحفي الفلسطيني، والمناضل المنشغل بالكفاح والتحرير، المُنجز لثمانية عشر كتاباً، والعديد من التحف الأدبية، عدا عن المقالات والرسوم، والمقابلات والخطابات، خلال 16 عاماً فقط، منذ كان ناطقاً باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
لم يعش كنفاني كثيراً، فقد ولد في عكا عام 1936، وقطن في يافا حتى أيار 1948، ثم أجبر على اللجوء مع عائلته إلى لبنان ثم إلى سوريا. أقام وعمل في دمشق ثم في الكويت، وفي عام 1960 استقر في بيروت لحين اغتياله عام 1972، وخلال فترة استقراره في بيروت تزوج من سيدة دنماركية تدعى (آن) أنجبت لهما فايز وليلى.
غاص كنفاني في أعماق الإنسان الفلسطيني بعد النكبة والنكسة وما قبلهما، كما تنبأ بالقادم، وأخرجه بإبداع ريشة الفنان ومهارة الكاتب. ففي روايته "عائد إلى حيفا" عام 1970، استذكر ما رواه مواطنو حيفا عن رحلتهم نحو عكا. وكان لا بد من أن تترك رحلته الخاصة نحو بلد اللجوء تأثيرها على غسان، فقد حضرت ذكرياته تلك في روايته "أرض البرتقال الحزين" عام 1963.
للأم الفلسطينية مكانة عند كنفاني فهي "التي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة"، كما جاء في روايته "أم سعد". وأم سعد هي امرأة حقيقية بحسب ما قال عنها كنفاني، وهو يعرفها جيداً، وتربطه بها صلة قرابة. قام كنفاني بإهداء تلك الرواية إلى "أم سعد، الشعب والمدرسة"، وفي مدخل الرواية قال: "لقد علمتني أم سعد كثيراً، وأكاد أقول أن كل حرف جاء في السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا ـ رغم كل شيء ـ تنتظران السلاح عشرين سنة ". وفي الرواية جاء على لسان أم سعد قولها: "خيمة عن خيمة بتفرق" فخيمة الفدائي التي ينتظر فيها فرصة ضرب العدو تختلف عن خيمة اللاجئ الذي ينتظر فيها الأمل بالعودة إلى فلسطين.
لم تمهله "جولدا مائير" وقتاً، فقد كان في السادسة والثلاثين حين أمرت باغتياله، رغم أنه لم يكن قائداً سياسياً ولا عسكرياً.. مجرد أديب لكلمته حدة سكين، لم تحتملها رئيسة وزراء، ففخخت سيارة كنفاني الصغيرة المركونة أمام بيته بالحازمية في العاصمة اللبنانية بيروت، وما أن صعد داخلها وإلى جانبه ابنة أخته حتى انفجرت، فطارت ابنة السبعة عشر ربيعاً وتشظى جسدها، وعثر على بقايا كنفاني في الوادي المجاور.
رغم غلبة القضية الفلسطينية على نصوص روايات غسان وقصصه القصيرة ومعظم أعماله الأدبية، إلا أن مواهبه الأدبية الاستثنائية أكسبته صفة العالمية، فأعيد نشر مؤلفاته عقب اغتياله، مرات عديدة. وجمعت نتاجاته الأدبية ومقالاته في 4 مجلدات. وتُرجمت معظم أعماله الأدبية إلى أكثر من 15 لغة، كما نُشرت في أكثر من 20 بلداً، وأُخرج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج تلفزيونية وإذاعية في العديد من البلدان العربية والأجنبية.
كان غسان كنفاني في حياته القصيرة، طافحاً بالشغف. فتراه جرب انساقاً إبداعية مختلفة؛ من القصة القصيرة، إلى الرواية، إلى المسرح، إلى الفن التشكيلي، وربما الشعر.. ومن البحث والدراسة، إلى النقد الأدبي، إلى الكتابة الصحفية والتحليل السياسي، إلى الكتابة الساخرة.
كان كنفاني غير مبالٍ للموت، شرط أن يباغته كريماً، رجلاً. لأن "الغزلان تحب أن تموت عند أهلها.. الصقور لا يهمها أين تموت" كما قال في مجموعته القصصية "عالم ليس لنا".
هذا المقال لروح الخالد في القلب، والدي- رحمه الله-، والذي أحب غسان كنفاني حد العشق، وفتن بكتاباته، وكان يردد عبارته الثورية على مسامع الجميع. فوالدي مثلنا تماماً يحب فلسطين ويكره الاحتلال.. أي احتلال كان!