في عام 2010، أجريتُ دراسة لصالح إحدى الصحف العربية المهمة التي كانت في طريقها لتطوير خدمات «الديجيتال» بها، للثبات في منافسة صعبة في تلك الأثناء؛ وهي الدراسة التي خلصتُ منها إلى نتائج ستظل مؤرقة لوقت طويل.
فقد أظهرت تلك الدراسة أن العامل الرئيس الذي يحدِّد تراتبية المواقع الإلكترونية الإخبارية، وقدرتها على الانتشار والتأثير، ومن ثم تحقيق العوائد الكبيرة، يكمن في «معدل التحديث» الذي هو القدرة على بث محتوى جديد في أقل فترة زمنية ممكنة، وبصرف النظر عن طبيعة المحتوى ونوعه، ومدى تحلِّيه بقيم العمل الصحافي الرشيد التي تعلمناها على مدى عقود.
وعلى مدى عقد كامل، لاحقاً، أمكنني دوماً إخضاع تلك النتيجة للاختبار الذي ظلت تنجح فيه بامتياز؛ الأمر الذي عزَّز الاقتناع لدي بأن عديداً من السِّمات التي صنعت مجد الصحافة المطبوعة، ومنحها القدرة على الاستدامة والتأثير لعقود طويلة، يُمحَى بصورة منهجية في صحافة «الديجيتال».
تذكَّرت تلك الوقائع في الأسبوع الماضي، عندما وقعت على دراسة أجرتها جامعة ميسوري الأميركية، ونُشرت نتائجها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تحت عنوان: «ما يُقدِّره الناس في الأخبار الرقمية» What People Value In Digital News.
يقول ديمون كيزو، أستاذ الصحافة في الجامعة، والباحث الرئيس في تلك الدراسة، إنه استند -مع زملائه من فريق البحث- إلى نظرية «المنح» Affordance، للمفكر الأميركي جيمس جيبسون الذي استخلصها بدوره من تجلِّيات علم النفس الإيكولوجي، عادّاً أن «خصائص الكائن تحدد الإجراءات المرغوبة التي يمكن اتخاذها معه للحفاظ على وجوده وتلبية احتياجاته».
يقودنا هذا إلى أن نفهم المنهجية التي اعتمدها كيزو وزملاؤه، بوصفها طريقة تنطلق من تشخيص دقيق لصحافة «الديجيتال» من جانب، ولـ«زبون» تلك الصحافة من جانب آخر، قبل أن تسعى لاحقاً إلى تكييف المُنتج الصحافي الرقمي لكي يقابل سمات هذا «الزبون».
لاحظ فريق البحث في جامعة ميسوري (التي تضم أعرق كليات الصحافة في أميركا) أن عدد الاشتراكات في منصات صحافة «الديجيتال» تضاعف خلال السنوات الأربع الماضية؛ لكن معظم أرباح هذه الزيادة اللافتة وصل لمنصات محددة، وهي المنصات التي ركَّز عليها البحث، ومن بينها بطبيعة الحال منصتا «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست».
وفي المقابل، كانت عيِّنة المبحوثين من قراء منصات الأخبار الرقمية تتركز في 12 قارئاً، تم إجراء مقابلات معمَّقة معهم، تضمَّنت أيضاً متابعة أنماط استخدامهم للأخبار، وأسئلة عن طبيعة الاستخدام.
وفي النتائج، خلصت الدراسة إلى وجود 8 عوامل تعزِّز القراءة الرقمية، وترفد منصَّاتها بمزيد من أسباب النجاح؛ هي: استخدام الإشارات الرقمية والملصقات لتمييز أنواع المحتوى، وقابلية الاسترجاع، والقدرة على إبراز الكلمات والصور الموحية والدالة، والقدرة على تحديث المحتوى وفرز القديم عن الجديد، والارتباط بمقالات ومعلومات أخرى مشابهة، وسهولة الاستخدام، وسهولة الانتقال بين الصفحات والأقسام، والقدرة على التفاعل ومشاركة المواد مع آخرين.
تؤكِّد الدراسة أن كل وسيلة اتصال تنطوي على مجموعة من السمات الفريدة التي تسهِّل أو تعوِّق نفاذها وتأثيرها، وهو الأمر الذي نفهم منه أن تلك العوامل الثمانية -بالذات- هي النصائح المقدمة لخدمات الأخبار الرقمية لكي تحقق أهدافها التنافسية.
سيكون بوسع النقَّاد توجيه انتقادات عديدة للدراسة؛ أولها يتَّصل بسندها النظري الذي ذهب إلى علم النفس الأيكولوجي، وكأننا ندرس ظاهرة تختص بالبيئة أو بالحياة البرِّية، وثانيها يتصل بمحدودية العيِّنة، وثالثها يتعلق بتركيزها الشديد على تجربة الاستخدام في مقابل صرف الاهتمام عن عوائده.
ومع ذلك، فإن أكثر ما يثير القلق إزاء مثل تلك الدراسات، لا يتعلَّق بالتقليل من أهميتها أو الطعن في صدقيتها، إذ تتَّسق النتائج غالباً في هذا المضمار على نحو مشابه في عديد المجتمعات؛ لكن مصدر القلق الكبير والحقيقي يكمن في فداحة الاستنتاجات التي تصل إليها، والتي تقوِّض مفاهيم رسخت لعقود عن عالم إنتاج المحتوى الإخباري.
لقد تعلَّمنا أن الأخبار تنطوي على قيم إخبارية، وأن تلك القيَم تسهم في تعزيز أهميتها ومن ثم التعرُّض لها، وصولاً إلى تفعيل تأثيرها في المتلقِّي والمجال العام. لكن تلك القيم التي شهدت أزهى عصورها في عهد الصحافة المطبوعة، لا تبدو ذات قيمة في عالم «الديجيتال».
الموضوعية والدقَّة والحياد والعمق لم تعُد عوامل تعزز استخدام المواد الإخبارية في العالم الرقمي. والمتلقي صار «زبوناً» تُكيَّف الخدمة للحصول على رضاه، وهو لكي يرضى يحتاج تحديثاً وإلحاحاً وسهولة في الاستخدام وقدرة على مشاركة ما يحصل عليه، بصرف النظر عن مدى جودته وعمقه وصدقه.