تهيمن علينا اليوم نحن العرب بخاصة، حالة من اللايقين. وربما تكون أسباب هذه الحالة وعواملها معروفة عند الخاصة ومجهولة عند العامة، ولكن الطرفين يعانيان من اللايقين المهيمن.
لعلّ السبب الرئيس للايقين سياسي، وهو فقدان العرب لقدرتهم على تقرير مصيرهم، وتحكم الأجنبي الإقليمي (إسرائيل وإيران وتركيا) والدولي (أميركا وروسيا وأوروبا) به. يليه السبب الاقتصادي المتمثل بعجز الدولة العربية عن توفير استقلال اقتصادي ذاتي، وفشلها في تحقيق الدخل القومي الإجمالي والدخل الفردي الكافيين لحياة كريمة.
عاش العرب هذا اللايقين لفترة أربع سنوات (1916 – 1920) بعد اكتشافهم تآمر الحليف البريطاني والفرنسي على ثورتهم الكبرى. لكن هذا اليقين سرعان ما يزال بالاستعمار الذي تجسد في حكمهم وفي تقسيمهم إلى شعوب وأقطار وخصوصيات. ثم عاد اللايقين وجيزاً على إثر هزيمة أو كارثة سنة (1948) في فلسطين. ولكنه تبخر بالانقلابات العسكرية (الكارثية) التي تلتها وبخاصة الناصرية منها التي نفخت أوداج العرب «بصوت العرب» وجعلت رؤوسهم تطاول السماء بهزيمة إسرائيل (المؤكدة ) غداً: «العرب أشرف أمة من شك في قوله كفر» ومع أن الأمور ظلّت واضحة إبان الحرب الباردة، فأنت إما مع الشرق أو مع الغرب أو محايد إيجابي بينهما، إلا أن الرياح لم تجر حسب ما تشتهي السفن العربية، بهزيمة حزيران الكبرى سنة 1967 التي زلزلت اليقين الذي كان راسخاً في النفس العربية العامة والخاصة.
وهكذا عاد اللايقين أو – قل– حل اللايقين محل اليقين بعدها، وهرع الناس إلى الماضي لاجئين ومستفتين ومستسلمين بالأصولية أو السلفية التي حلّت محله. غير أن اليقين السلفي الجديد أو المستقرض من الماضي سرعان ما أعاد إلى اللايقين دوره وسلطته بالإرهاب وبالحروب الأهلية والمذهبية والطائفية والعنصرية والتي تفتك في العراق وسورية، وليبيا، واليمن، وتعمل تحت الأرض في بقية الأقطار.
يتوقع القارئ العام والخاص بعد هذه المقدمة ذكر تداعيات هذا اللايقين وأمراضه. يلجأ المعلمون والمعلمات في التعليم لتوضيح المفاهيم والتعريفات وتقريبها إلى ذهن التلاميذ والتلميذات بالأمثلة، وأعوذ بالله أن كنت أعتبر نفسي معلماً للقارئ، لأنه الأقدر على تقييم ما يُكتب، ولكني أفعل ذلك لتوضيح فكرتي أو أفكاري، وتلكم مشكلتي، لا مشكلة القارئ.
ومن ذلك – مثلاً– أن القلق والخوف من المجهول يسيطران على المرء في حالة اللايقين. وكذلك في اتخاذ القرار في استثمار أو استهلاك…، والإحساس بالضياع، لأنه لا يدري إلى أين تسير الأمور أو ستنتهي. وبكلام آخر: تنعدم الرؤية عند الناس في حالة عدم اليقين فالمستقبل غامض أو مبهم، والثقة في الأوضاع العامة الرسمية والشعبية معدومة. إن الشك وانعدام الرؤية والثقة تشل التفكير.
إن الوضع العربي العام مائل أو غير مفهوم لأن ما يجري من أحداث فيه تطير العقول، ليجد العربي نفسه أمام لغز محير في علاقات كل دولة عربية مع الغير.
عندما يسيطر اللايقين على العقول والنفوس، فإنها لا ترى أملاً أو ضوءاً في نهاية النفق. ويزداد شعور الناس باللايقين طردياً مع عجزهم عن التنبؤ في المستقبل أو بما يأتي به الغد. لأن اللايقين أو المجهول الكاسح يغلب ما لديهم من معلوم، وذلك كله يزيد الشعور بالقلق عند الفرد والمجتمع ويجعلهما والأصولية توأمين إلى إشعار آخر.
نحن الآن نعيش هذه الفترة العصيبة من الأصولية واللايقين اللذين زادهما ترامب بتقلباته السياسية والاقتصادية سوءاً، ونتمزق حيارى عاجزين كلما اشتد هذا اللايقين بمدخلات سلبية جديدة، مما يدفع الناس إلى اللجوء إلى الماضي والإقامة فيه لما يجدون فيه من يقين يخلصهم من قلق اللايقين.
وينشأ عن ذلك وتنتشر وتكبر أمراض نفسية واجتماعية شتى، مثل الانسحاب أو الاعتفاد (الاعتزال في البيت حتى الموت) أو الجريمة بأشكالها وأنواعها كالقتل، والرشوة، والسرقة، والسطو، والغش، والإرهاب، والسلب والنهب… ومع هذا يجب علينا أن نرى النور في نهاية النفق مهما طال، فقد مرت شعوب كثيرة قبلنا بمثل هذه الحالة وأكثر مرارة أو عتمة منها، ولكنها تجاوزتها إلى رحاب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أعراض اللايقين وأمراضه
أخبار البلد - أخبار البلد-