بعد قرابة أسبوع من الصمت على إشهار الولايات المتحدة حلف «أُكوس» الذي جمعها ببريطانيا واستراليا, وتوجيهها «لكمة» عنيفة وليس مجرد صفعة لـ«حليفتها» النووية في حلف الأطلسي/فرنسا, استفاقت «دوائر» الاتحاد الأوروبي عبر إطلاق تصريحات مُتلعثمة وخجولة، وإن حمَلت بعض العبارات والمصطلحات اللاذعة/نسبياً المنتقدة لواشنطن, على ما ذهب إليه رئيس الاتّحاد الأوروبي شارل ميشيل الذي اتّهمها بـ«عدم الولاء», فيما اختارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين عبارة من القماشة الخجولة ذاتها عندما قالت إنّ أحد أعضاء الاتّحاد «عُومِلَ» بطريقة «غير مقبولة» حيال أزمة الغواصات.
أمّا مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتّحاد جوزيب بوريل فقد «انتقدَ» عدم وجود مشاورات مُسبقة بشأن الشراكة الأمنية بين الولايات المتّحدة وبريطانيا وأستراليا، وإلغاء عقد الغواصات مع فرنسا.
العبارات السابقة التي صدرت عن أرفع القيادات الرئيسة في الاتّحاد الأوروبي, تذكّر الجمهور العربي بشكل أو آخر بما صدرَ ويصدر عن جامعة الدول العربية، خاصّة على لسان «أمناء» تلك الجامعة الذين يُفرِطون في إطلاق مواقف وتصريحات عنترية، تكاد تدفع السذّج للاعتقاد أنّ التضامن العربي على وشك التحقّق، وأنّ العمل العربي المشترك قد بات أولوية على جداول أعمال الدول الأعضاء، خاصّة في التنقّل الحرّ للأيدي العاملة ورؤوس الأموال والاستثمارات. بل إنّ القضايا القومية قد تمّ الانحياز لها نهائياً بعيداً عن الأنانية القُطرِيّة والشعارات الانعزالية وغيرها من القرارات التي اتُّخذت طوال ثمانية عقود تقريباً من قيام هذه المؤسسة, التي أصابها التكلّس والجمود حدود الشلل.. بفعل اتّخاذ قرارات توصَف بـ«السيادية», فيما هي تطيح أُسس الأمن القومي العربي.
المقارنة ظالمة بالتأكيد... فما تزال تصريحات قيادات المؤسسة الأوروبية تعكس بعضاً من الحيوية والحضور رغم أنّ «الخصم» هو الولايات المتّحدة, التي ترتعد فرائص قادة معظم دول الاتّحاد الأوروبي (ومعظمها أعضاء في حلف الناتو), إذا ما شعروا أنّ ساكن البيت الأبيض عاتِب، ما بالك إن غضب أو هدّد برفع الحماية عنهم في وجه إمبراطورية الشرّ «الجديدة»/ روسيا؟ رغم غياب الإمبراطورية التي وُسِمَت بهذا الوصف ونعني.. الاتّحاد السوفياتي؟
لكنّه.. الاتّحاد الأوروبي لا يبدو في راهنه أكثر قوّة وتماسكاً ووحدة كما كان قبل عشر سنوات أو أكثر، خاصّة بعدما دشّنت الولايات المتّحدة حقبة من الحروب العدوانية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول2001، واستطاعت إحداث اختراقات بل انقسامات عميقة داخل بُنى الاتّحاد، وداخل حلف الناتو خاصة بعد انضمام دول أوروبا الشرقية إلى عضوية كلّ من الاتّحاد والناتو. وهو ما نشهده من «تمرّد» حقيقي حدود الازدراء والتّحدي تبديه دول مثل بولندا وهنغاريا والنّمسا مُخالفة قواعد ومواثيق الاتّحاد.
ليس جديداً القول إنّ ألمانيا وفرنسا تقودان قاطرة الاتّحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً وإلى حدٍّ ما عسكرياً رغم الرفض الأميركي القاطع لأيّ محاولة أوروبية شبه استقلالية في هذا الشأن. و«حكاية» إنشاء جيش أوروبي أو قوة تدخّل سريع معروفة، حيث عارضتها/قمعنتها واشنطن بشدّة, كما قامت بتحريك «جيوبها» في الاتّحاد لإسقاط الاقتراح خاصّة أنّ قرارات الاتّحاد الأوروبي تُؤخَذ بـ«الإجماع» (كما الجامعة العربية).
صحيح أنّ تدحرج الاتّحاد الأوروبي إلى نسخة ولو «مُنقّحة» عن الجامعة العربية بما تعانيه من شلل وسيادة الثرثرة والبيروقراطية وخضوعها لسطوة المحاور وتضخّم الخلافات العربية التي لا تنتهي، بل يتمّ استيلادها في مناسبة وغير مناسبة.. يبدو مُستبعَداً, أقلّه في المديّين.. الرّاهن والمتوسط، إلا إنّ خطوة إدارة بايدن الأخيرة ستُسهم من بين أمور أخرى, في إحداث المزيد من التصدّع في بنى الاتّحاد وبين دوله، خاصّة المُتأمركة منها, التي جاءت إلى الحكم سلطتها عبر «ثورات ملوّنة» أشرفت عليها وموّلتها المخابرات الأميركية, بتعاون وثيق مع ما يُسمّى منظمات المجتمع المدني في تلك الدول.
في السطر الأخير.. يجدر التأمّل في دعوة وزير الخارجية الفرنسي لورديان لشركائه «الأوروبيّين لـ«التفكير ملياً»، لأنّ الموضوع يتعلّق في المقام الأول بانهيار الثقة بين الحلفاء، لأنّ التحالف -أضاف- يعني الشفافية والقدرة على الاستشراف والتوضيح, والتحدّث مع بعضنا البعض وعدم الاختباء.. معتبراً أنّ عليهم الدفاع عن نموذج بديل، بدلاً من الخوض في منافسة لا تخلو أحياناً من استخدام العضلات، في إشارة واضحة إلى التوجّه التصادمي للغاية الذي يبدو أنّ الولايات المتّحدة تسلكه تجاه الصين..-كما قال حرفياً-.