اخبار البلد ـ الحديث عن مسألة نزعة الانفصال لأقاليم عن أوطانها الأصلية أو العكس؛ بحيث تندمج كيانات مع دول، أمر يعيشه العالم منذ عقود، وهي ليست سياسية كما تظهر للوهلة الأولى؛ بل لها جوانب اجتماعية واقتصادية وثقافية تلعب دوراً في نجاحها من عدمه. فما الذي يدفع أقاليم بعينها نحو الانفصال والاستقلال عن محيطها الأكبر وانتمائها الأصيل؟ نزعة الانفصالات عن الوطن الأم ليست جديدة، ولكنها تحدث لا سيما في وجود بيئة مناسبة. تراكم المعاناة عبر السنين في تلك البلدان يكشف عن وجود أسباب موضوعية تدفعها للتفكير؛ سواء باتجاه الانفصال أو الاندماج.
سبق أن قلت إن الحالة تصل لذروتها بعوامل عدة، ويتزامن معها بالضرورة انسداد للأفق السياسي ما بين المركز والطرف. طبعاً هي مؤشرات على انقسامات عرقية ومذهبية ودينية تتبلور في عالمنا، ولم يتوقف الأمر عند العرب (كالحالة السودانية أو الكردستانية) بل تجاوزه ليصل لدول ديمقراطية كإسبانيا (كاتالونيا) مثلاً. السبب الرئيس في حالات هذه الدول هو عدم قدرة النظام الأم على إرساء المقومات الأساسية لوحدة دولة جاذبة، على الرغم من الضغوط الخارجية والمطالب الشعبية للمحافظة على النسيج المجتمعي ومخاطر التقسيم.
هذه القضية أصبحت دولية، والملاحظ أن بعض الأطراف الخارجية تستغل قضايا الأقليات، وكذلك الدول الكبرى المؤثرة تتعاطى أيضاً مع هذا الملف وفقاً لمصالحها الاستراتيجية، ورغبتها في التأثير على سياقاتها، والخشية من تبعاتها، ما يفسر لنا حساسية المجتمع الدولي من حركات الانفصال، وإن كان هذا ليس مثار نقاشنا.
عند الحديث عن الاندماج يتساءل المفكر فوكوياما: هل نضع حدود التعاون حسب العوامل الثقافية، أم نتبع ما يفرضه منطق الاقتصاد؟ وهل يتم توليد الثقة بفضل الثقافة، أم نستطيع أن نندمج بشكل أكبر عالمياً من دون هذا العامل؟ يجيب بأن «العوامل الثقافية أصبحت العدسات التي ينظر من خلالها كثير من الناس للقضايا الدولية اليوم». وهي الإجابة ذاتها للمفكر هنتنغتون.
لكن فوكوياما يختلف مع صاحب نظرية صراع الحضارات في جزئية «أن قوة الثقافة ستعرقل الاندماج بين قوى العولمة الاقتصادية، وأن الناس سيصبحون أكثر ولاء إلى ما هو خاص بثقافاتهم من ديانات وأواصر إثنية وروابط تاريخية». كان هنتنغتون يشير هنا إلى هيمنة الثقافة التقليدية في إعاقة وتعطيل التنمية الاقتصادية، مع أن من يخالفه الرأي يعتقد أنها هي جوهر العملية التنموية ومحورها، مثل المفكر ماكس فيبر الذي قال: «إننا لو استطعنا أن نتعلم شيئاً من تاريخ التنمية الاقتصادية، فإن ذلك الشيء هو أن الثقافة هي التي تصنع كل المتغيرات والاختلافات».
إذن نحن أمام نمطين من الثقافة: أحدهما يدفع باتجاه تعزيز التنمية بينما الآخر يعرقلها، أو لنقل كما في منطقتنا العربية: فئة تحديث وفئة ممانعة، والمجتمع يبقى أسيراً في نهاية المطاف لمن يفرض تأثيره وقناعاته.
فوكوياما وهنتنغتون اتفقا على أن الهوية الثقافية والسياسية المستندة إلى ثقافة مشتركة لن تختفي في المستقبل المنظور، فالناس - كما يعتقد - سيظلون يُعرفون بشكل أولي على أساس الوطن والتقاليد والثقافة والمجتمع المحلي. هذه الجزئية علق فوكوياما عليها بأن قوى العولمة تمارس سلوكاً مخالفاً لمبادئ الديمقراطية، إن هي بادرت «بنزع القدرة عن المجتمعات المحلية في تحديد الكيفية التي تتم وفقها صياغة حياتها السياسية المشتركة».
منطلق التنمية وغايتها هو الإنسان، وتتشكل الحداثة والتنمية من جهود الأفراد، وذلك بأن نأخذ في الاعتبار البعدين العقلاني والأخلاقي في الإنسان من أجل تفجير طاقاته، وهذا يتسق مع ما قاله كانط بأن «الثقافة ما هي سوى مجموعة من الغايات الكبيرة التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقاً من طبيعته العقلانية».
غير أن المسألة المطروحة بين المفكرين هي كيفية الوصول لنقطة نهاية حضارة عالمية واحدة، وهل من يقودنا إليها طرق مختلفة، أم أن تلك الثقافات المتعددة تتجه نحو مواقع مختلفة؟
صاحب نظرية صدام الحضارات يرى أن الثقافة تلعب دوراً رئيسياً في اندماج الشعوب وتوحدها تجاه التحديات. في حين أن رأي فوكوياما مناقض لرأي هنتنغتون، وهنا يكمن الاختلاف فيما بينهما، فهو يعتقد أن التحديث نفسه يتطلب في المدى البعيد: «التقاء كثير من المؤسسات بغض النظر عن المنطلقات الثقافية»، معتبراً أن التكامل الاقتصادي بين الدول هو الأكثر فعالية، ويؤدي إلى ترسيخ الثقة واستدامتها، لا سيما «عندما تعتمد المؤسسات القانونية الشفافية؛ بدلاً من الأواصر الفضفاضة من القرابة الثقافية».
إذن: هل نذهب مع فوكوياما أم نؤيد هنتنغتون؟ بعبارة أخرى: هل تندمج الشعوب بناء على قواسم الثقافة المشتركة من عادات وتقاليد وقيم وذهنيات، أم على الاقتصاد بعوالمه ومصالحه وبرامجه ومشروعاته؟ سؤال كبير يحتاج بلا شك إلى بحث مطول وآراء متنوعة.
ما يهمنا هنا أننا توصلنا إلى نتيجة موضوعية تتمثل في أن عوامل أخرى، كالثقافية والاقتصادية، تلعب دوراً مفصلياً في نجاح قرار الاندماج أو نزعة الانفصال. ورغم مظهرها السياسي فإن مفاعيلها التي تتحكم فيها هي تلك (العوامل) الأدوات الخافية شكلاً والمؤثرة فعلاً.