الحمد لله المتعالي على خلقه يفصل بين عباده يوم القيامة فيما هم فيه مختلفون، والذي جعل الاختلاف سنة في خلقه إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه ومن والاه، قيل العقول العظيمة تناقش الأفكار، والعقول الصغيرة تناقش الأشخاص، حتى لا يظن أن هذا المقال موجه لأحد أو لخدمة جهة، ولأن المقال لا يلتفت إلى ما يشاع عن صلة الأهلة بالأمور السياسية لأن ذلك من باب الرجم بالغيب وفيها قدح بالأشخاص بلا دليل، ولأن المسالة مبنية في النهاية على خلاف فقهي.
وقد سمع الأردنيون كغيرهم أن العيد الأربعاء وعليهم قضاء يوم، وسمع من بعض الشرعيين أن الفلكيون خاطئون فيما يدعون أن الهلال لا يمكن أن يرى في المنطقة العربية بدليل رؤيته بالفعل، فوجدت لزاما أن أكتب في الموضوع مستندا إلى دعم ثلة من العلماء والفلكيين ومعرفتهم بجهودي في المسائل الفلكية في عدة أبحاث، ومتوكلا على الله ومتسلحا برأي الجمهور في المسألة، وليستفيد القارئ في تجلية أصل الخلاف وفك الاشتباك، لا بد من التأكيد على عدة منطلقات:
- قوله تعالى: "وقل الحق من ربكم "وقوله:" وفوق كل ذي علم عليم" فلا مجاملة ولا تقليد ولا تردد في قول الحق، وكل اجتهاد ظني والاختلاف مشروع بين العلماء ومسألة الأهلة واختلاف المطالع من المسائل الخلافية.
- أن المعتمد شرعا لدخول الشهر رؤية الهلال وليس تولده، والأخذ بالحساب الفلكي ضروري لتمحيص الشهادة ومعرفة إمكانية رؤية الأهلة مسبقا فالأمة لم تعد أمية، والتأكيد على أهمية الجهود العلمية للفلكين في خدمة دينهم.
- أن رؤية الهلال في المنطقة العربية يوم الاثنين كانت مستحيلة وأن ما رؤي ليس بهلال، وأن الحسابات الفلكية الدقيقة100% تؤكد أن الهلال يرى -وقد رؤي بالفعل- يوم الاثنين.
- احترام النموذج الأردني المتميز في التعاون ما بين الفلكيين والشرعيين والذي تشرف عليه دائرة قاضي القضاة.
بعد هذه المنطلقات لا بد من معرفة أن أي جدلية فقهية تنشأ بسبب تفاوت العقول وتفاوت الثقافة، ولما خلا هذا الزمان من مجتهد مطلق فإن العلماء اشترطوا للمجتهد أن يلم بالمسألة وأن يستعين بالمتخصصين ليلم بما يصل به إلى الصواب إن وصل لأن ما ينتج عنه ظني، ولذلك فالفلكي لا يجوز له أن يفتي إلا إن كان فقيه مسألة وهذا صعب المنال لأنه مرتبط بمدى تشكل العقل الفقهي، والفقيه إن استبد برأيه فلم ينظر بتجرد لأدلة الخصم فجهده منقوص واجتهاده غالبا يكون مخالفا لرأي الجمهور وهذا لا يعني أن رأيهم دائما على صواب ولكن يستأنس به، والحال أن الفقيه عندما يستبد برأيه مثل الفلكي الذي يفتي بغير علم لأن كلاهما قد افتقد إلى النظر في جملة الأدلة.
أما من يقول أن الحسابات الفلكية غير دقيقة فهؤلاء جاهلون بعلم الفلك وفاقد الشيء لا يعطيه وقد أحصيت عشرات من تواريخ الكسوف ورؤية الهلال في كتب التاريخ فوجدتها متطابقة تماما مع البرامج الفلكية، وهؤلاء أحرى بهم أن يدرسوا علم الفلك الذي لولاه لما استطاع الغرب أن يغزو الفضاء.
وأما من يقول بوجوب قضاء يوم من رمضان من بعض الفقهاء والفلكيين فقد بنوا الحكم على أن الهلال لا يمكن أن يرى في المنطقة العربية وهذا صحيح 100% لكن الهلال يرى في منطقة أخرى في نفس اليوم فالرؤية لليوم لا للجغرافيا عند جمهور العلماء فلا عبرة عندهم باختلاف المطالع وهذا يكفي لإثبات دخول الشهر، ويكفي دليلا لهم قوله تعالى"يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" فإذا كانت مصالح النَّاس تقوم على رؤية الهلال فلا تكون تمام هذه النعمة باختلافهم، فقد عقل بمفهوم خطابه أنَّها تكون مدة لإجارة جميع النَّاس وديونهم وكل منهم لا يحتاج إلى أن يختص لنفسه ببعض الأهلَّة دون بعض فجعل الأهلة نفسها مواقيت ولم يعتبر اختلاف المطالع، أما خلاف الجمهور فأدلتهم لا تقوى على الصمود وقاسوا الأهلة على مواقيت الصلاة وهذا يحتاج إلى دليل.
ولعل البعض ممن يفتي بوجوب قضاء يوم قد استعصت عليه الأمور وأشكل عليه ضبط المسألة فظن أن اليوم الأرضي وهميا ليس له حدود، ثم أشكل عليه كيف يمكن أن ننتظر حتى يرى في أمريكيا ثم نعمل بهذه الرؤية وقد قارب الفجر على الشروق في مشرق الأرض؟ والجواب أن الأمة لما زالت عنها الأمية في الحساب الفلكي أمكن أن تعرف مسبقا وبدقة متناهية إمكانية الرؤية زمانا ومكانا، فتزول المشقة وتنتهي المشكلة.
ثم إن من يقول بوجوب القضاء قد خالف أصلا متفقا عليه عند الأصوليين وهو أن توقيت العبادات منوطة بأعمال الإمامة لا بإعمال الإفتاء ولا يترتب على العامة مسؤولية حتى وإن أخذ الإمام بالمرجوح وله أن يتردد بين الراجح والمرجوع سواء كان الإمام أو من ينوب عنه صالحا أم طالحا إذ لا يطالب العوام بأن يصبحوا فقهاء وإن اصبحوا لاختلفوا من جديد ولذلك قالوا رأي الإمام يرفع الخلاف ظاهرا وباطنا فلا يجوز للفقيه أن يفتي بخلاف رأي الإمام ويقع بالإثم ولأنه يحرك العامة فيما لن يدركوه أصلا ويوقع الناس في الفتنة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مجلس الإفتاء الأردني قد تبنى رأي الجمهور في الفتوى رقم: (28) ونصها:" يبدأ الشهر القمري عندما تثبت رؤية الهلال في الأفق الغربي بعد الغروب يوم 29 من الشهر القمري الجاري فإن لم يظهر تلك الليلة وجب إتمام الشهر 30 يومًا، وإذا ثبت رؤية الهلال على الوجه المذكور في أي قطر إسلامي فيجب العمل بها"، لكن أدعوا دائرة الإفتاء العام ودائرة قاضي القضاة بإعادة النظر في الشطر الثاني من الفتوى، ليصار العمل بها اذا كان بالإمكان رؤية الهلال في أي مكان من العالم حسب اليوم العالمي المتفق لأن هذا التقييد يحتاج إلى دليل، ثم لا بد من احترام الخلاف الفقهي في المسألة وخصوصية كل بلد.
وللفائدة فالأهلة عند جمهور العلماء جعلت ليبنى عليها تقويم إسلامي عالمي يحقق مصالح المسلمين ويوحدهم فلا يجوز أن يكون لكل مسلم تقويم يصل أحيانا إلى أربعة أيام، وهذا ما أخذت به تركيا والمجالس الفقهية في أمريكيا وأوروبا وغيرها من البلدان والهيئات.
من جديد وبناء على رأي جمهور العلماء فالشهر يدخل إذا رؤي عند غروب الشمس من اليوم العالمي، وقد رؤي يوم الاثنين فيكون يوم الثلاثاء هو أول يوم من الشهر الجديد ولا قضاء على أحد، وصيامنا وفطرنا صحيح تماما ولا يلزم القضاء، بغض النظر أن الرؤية التي وقعت في المنطقة العربية كانت خاطئة فلم تكن للهلال، ولان رأي الإمام يرفع الخلاف ظاهرا وباطنا ويفرق في هذه المسألة بين العلماء والعوام فلكل أحكامه، ولا بد من التأكيد على احترام خصوصية كل بلد درء للفتنة، وفي نظري أن دائرة قاضي القضاة قد تبنت شطر هذه الفتوى فاعتبرت رأي الجمهور بناء على تنسيب الأخوة الفلكين أن الرؤية ممكنه في يوم الاثنين في بعض مناطق العالم والله تعالى اعلم.