منذ تأسيس إمارة شرقي الأردن عام 1921م أخذت عجلة التطور والانجاز على الساحة الأردنية تتدحرج ككرة الثلج؛ وأصبحت نقطة استقطاب للأحرار العرب من جميع انحاء العالم العربي، وتسلم زعامات هذا البلد شخصيات عربية من مختلف نواحي الوطن الكبير، فكانت اول مبادرات النجاح لجمع شمل العرب في الحرية والاستقلال وإن لم يكتب النجاح الكامل على المدى البعيد لهذه الخطوة الا اننا نستطيع ان نصنفها ضمن عمل ممنهج ونمط حياة سياسية جادة. وأخذت الأمور بالاستتباب الأمني والتطور في الميادين كافة وتأسيس دولة حديثة قائمة على التشاركية في الرأي والعمل.
وما يهمني هنا أكثر تلك النواحي المتعلقة بحياة الانسان اليومية ولقمة عيشه، وأنا أتذكر تلك الأيام من حقبة سني عمري في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي؛ كيف كان الخير في وطني، ففي القرية التي كنت أسكن فيها كنت تجد النجار الذي يعمل على تفصيل الخزائن والكراسي والأبواب وما يتعلق في احتياجات المنازل من الصناعات الخشبية بدقة واحتراف، وكنت تجد الحداد الذي يعمل على صناعة الأدوات المطلوبة للزراعة كالفأس والمنجل والقدوم وغيره، وكذلك المنجد الذي يقوم على صناعة اللحف والفرشات والمخدات والمجالس العربية والمكانس، والبنّاء الذي يعمل على بناء البيوت والمساجد والكنائس ودور العلم، اما مهنة الخياطة فكانت حكرا على بعض النساء اللاتي يعملن على خياطة وحياكة الملابس واصلاحها في البيوت، وفي الجانب الآخر من الحياة المجتمعية كنا نجد الكثير من المهن مثل الرعي والتجارة " الدكاكين" والباعة المتجولين، واللحاميين "الجزارين" .
وعلى رأس هذه الأعمال كانت مهنة الزراعة، حيث اعتمد المجتمع على الفلاحين في تأمين كافة احتياجاتهم الغذائية بأجود المواصفات وبما تجود علينا الطبيعة من خيرها؛ نحصده ليعم الخير على الجميع، لذلك شكل قطاع الزراعة المحور الرئيس في قيادة عجلة التنمية والتطور واستحوذت الزراعة على النسبة الكبرى من الأيدي العاملة، لم نعاني ابدا من مشكلة البطالة، الكل يعمل وينتج كخلية نحل، الكل منتج؛ والاكتفاء الذاتي كان العنوان الأبرز للمجتمع الأردني هذه السياسة التي اصبحنا نفقتقدها وأصبحنا على النقيض من ذلك اللآن أصبحت السمة العامة للمجتمع ذات نمط استهلاكي مقيت، هُجرت الأرض الزراعية وأُهملت بشكل ممنهج من خلال السماح بتفتت الملكيات الزراعية والسماح في البناء وتعبيد الطرق على الأرض الزراعية مما افقدنا ميزة اقتصادية هامة وخسرنا الأرض والانسان "الفلاح" ليس هذا فحسب بل انهيار للمنظومة الأخلاقية التي كنا نتغنى بها، ومنها انتشار ظاهرة الانتقاص من الفلاحين واحتقارهم، ونعت الانسان العامل بالزراعة بأنه فلاح " أي متخلف بالمعنى المجازي الئ اصبح منتشرا لاحتقارالفلاح والانتقاص من قدره ومكانته، علما بأن الدول المتقدمة الكبرى دولا زراعية في روسيا وفرنسا وهولندا وابريطانيا وامريكا وتصدر الحاصلات الزراعية كسلعة استراتيجية اهم من النفط والغاز. ولم تسلك اية وسائل للتوعية والتثقيف لمحاربة هذه الظاهرة التي قادتها بعض الأطياف الارستقراطية المتكبرة. مما اضطر العديد من الفلاحين لترك أراضيهم وترك العمل في الزراعة واصبحت الأرض الزراعية أرضا بورا، أو وقعت فريسة للزحف العمراني في ضوء تراخي واهمال الحكومات المتعاقبة في هذا المجال وعدم المقدرة على وضع الحلول المناسبة لهذا القطاع الحيوي الهام في مجتمعنا. وتحول المجتمع الى النمط الاستهلاكي، فانتشرت ظاهرة الفقر والبطالة واختفت الطبقة الوسطة من المجتمع وتبلورت الطبقيةفيه كما في العصور الوسطى،
وهنا أتساءل ألهذه الدرجة تعتبر مشكلة قطاع الزراعة مستعصية في مجتمعنا؟! وهل فعليا الوزارات المنتجة مثل وزارة الصناعة والتجارة ووزارة الزراعة عماد المجتمع تخلو من برامج استراتيجية على المدى القصير والمتوسط للنهوض بالمجتمع والوصول الى درجة من الاكتفاء الذاتي؟!، والى متى ستبقى السياسات الحكومية المتعاقبة مقتصرة على سياسة الاقتراض من صندوق النقد الدولى؟ والى متى ستبقى حلول عجز الموازنة مقتصراً على جيب المواطن ومشاركته بكل شاردة وواردة من اتعابه وعرق جبينه مقابل خدمات بأدنى مستوياتها في التعليم والصحة والمواصلات والرعاية المجتمعية وحتى في الصرف ى الصحي تغرق مدننا بسبب سوء البنية التحتة وعدم صيانتها باستمرار وتتجدد المشكلة سنويا؟! وإلى متى ستبقى الشعارات المفرغة سياسات حكومية ثابته لأية حكومة تتولى أمر البلاد فجميع هذه الحكومات رفعت - على سبيل المثال لا الحصر- شعار محاربة الفقر والبطالة وتحسين الخدمات ، والإعلان بأنها على أهبة الاستعداد لمواجهة اية تحديات؛ بينما على أرض الواقع يتم تكريس هذه المشكلات وتعميقها؛ الفقر والبطلة بازدياد ومستوى الرعاية والخدمات متدنية، وكل من هو ميسور الحال يهرب لتعليم ابنائه في المدارس الخاصة لانحطاط التعليم الحكومي، واللجوء للمستشفيات الخاصة لانخفاض مستوى الرعاية الصحية في المستشفيات الحكومية والضغط الشديد عليها مما يعني تدني الخدمة وقلتها. في ظل إعلام لا يزال لم يرتقى الى مستوى المسؤيولية ناسيا أو متناسيا بأنه ىالسلطة الرابعة في الدولة التي يقع على عاتقها مسؤيولية مجتمعية كبيرة قد تفوق مسؤولية مجلس النواب في الرقابة وتوجيه الهمم للبناسء والتعمير والاصلاح بدلا من التطبيل والتزمير لشخصيات قد فشلت في اختباراتها بالعمل العام والخدمة المجتمعية وانتهت الى زوال منذ تأسيس المملكة.
ولا بد من الاشارة أيضا الى ظاهرة أخرى تتعمق مؤخرا في مجتمعنا متمثلة بهجرة رؤوس الأموال وإقفال لبعض المنشآت الاقتصادية الحيوية، وبحث المواطن الأردني للهجرة خارج وطنه بحثا عن مجتمع افضل يوفر له الخدمات والرعاية، وانتتشار الفساد وعدم المساواة وبيع مقدرات الوطن عبر موضوع الخصخصة الذي دمر ما تبقى من خيرات هذا الوطن، وتغول السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية وتغييب لدور السلطة الرابعة لهو خير مثال على مدى الفشل في إدارة الدولة وانعدام ثقة المواطن بدولته وكأنهما على طرفي نقيض، الأمر الذي يؤدي الى قتل روح المواطنة في نفس المواطن ورغبته في الهجرة او سلوك طرق الفساد كون القيم المجتمعية اصبحت في ادنى اهتمامات المواطن واصبحت المصلحة الشخصية اهم بكثير من المصلحة العامة ، كل هذه الأمور تصيب المجتمع في مقتل.
واسمحوا لي أن أقدم النصيحة لحكومتنا الرشيدة؛ بأن تأخذ من النموذج الإداري في سينغافورة والنموذج الكوري القدوة وتبني سياسات مشجعة ومحفزة للفرد للإبداع والتركيز على العمل الجماعي والتشاركية بالقول والفعل والعمل كفريق متكامل واحترام انسانية الانسان والثقة بامكانياته وقدراته كخطوة أولى في سبيل الرقي والتقدم، وإنني على ثقة تامة بأن الوعي بالمخاطر التي نواجهها والعمل جميعا يدا واحدة لتحقيق هدف واحد؛ هو البناء والنهوض بالمجتمع من جميع النواحي وتخليص المجتمع من الشوائب التي، واستئصال الفساد وتجفيف منابعه الذي يهدد صفو الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سيكون عنوانا في مسيرة هذا الوطن نعمل جميعا على تحقيقه لينعم أبناؤنا بخيرات وطنهم ويعيشوا بأمن وسكينة واستقرار تحت ظل حضرة صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين.
حمى الله هذا الوطن وقيادته الهاشمية بأمن وسكينه واستقرار