يملك السوريون ذاكرة طازجة في ما يخص مفردة «الاستحمار»، ففي بداية الثورة رفع ناشطون شعار «لا للاستحمار»، وكان المقصود به دعاية تنظيم الأسد التي تستخف بعقول السوريين، وتفبرك روايات غير قابلة للتصديق عن الحدث السوري، وصولاً إلى فبركة سيناريوات تُطبخ في أماكن محددة خارجياً. مثلاً، عندما استشعرت الخطر، عمدت صفحات موالية إلى ذكر سيناريو يُعدّ له خارجاً يتضمن سقوط الأسد ودخول الثوار قصره، وحذّرت تلك الصفحات من أن ذلك سيكون مفبركاً بالكامل، ويتعين على أنصار الأسد عدم تصديقه عندما تبثه قنوات التلفزيون المتآمرة.
لو عدنا سبع سنوات إلى الوراء لما كنا لنتخيل أن يقوم المجتمع الدولي باستحمار السوريين بجلسة لمجلس الأمن، وأن يصدر الأخير قرار هدنة يعلم الجميع أن لن يُنفّذ على الإطلاق. تالياً، لن يكون مثار دهشة أن تعلن موسكو تطبيقها القرار بينما يقوم طيرانها على مدار الساعة بقصف الغوطة الشرقية، ولا أن تعلن أنقرة أنها غير معنية أصلاً بتنفيذ القرار لأنها تحارب إرهابيين لا يشملهم.
زيادةً في الاستحمار، ستكرر الرئاسة الفرنسية العزم على الرد إذا استخدم تنظيم الأسد السلاح الكيماوي، بينما ترِد الأخبار يومياً من الغوطة عن استهداف المدنيين به. وجه الاستحمار ليس في السماح باستخدام مختلف أصناف أسلحة الإبادة، بما فيها أسلحة محرمة دولياً مثل القنابل العنقودية أو القنابل الحارقة، وإنما في كون التثبت من استخدام الكيماوي يتطلب قيام فريق دولي بمعاينة المكان والضحايا، وهذا ما يستحيل أن يسمح به تنظيم الأسد وحلفائه الذين يحاصرون الغوطة تماماً.
تريد الحكومة الفرنسية إبراء ذمتها وتسجيل موقف للتاريخ، فقط تسجيله لا اتخاذه عملياً، وهكذا كان حال الدول المشاركة في التصويت على قرار الهدنة. فتلك الدول فعلت ما في وسعها، بل نجحت بمهارة في تجنب الفيتو الروسي عبر تجريد القرار من موعد لسريان الهدنة، إلا أن المعنيين بتطبيق القرار لم يلتزموا به، وهم بذلك يستحقون قليلاً من العتب اللفظي، أيضاً من باب تسجيل المواقف لا من باب الاختلاف أو الاشتباك السياسي الحقيقي.
كأن صانعي القرار الدوليين لم يتعلموا من التجربة السابقة، فكل القرارات التي استثنت التنظيمات الإرهابية كان تنفيذها يعني التنصل من القرار والقول بإنه يُنفّذ. المسألة ليست شائكة كما يُراد إفهامنا، ففي حالة الغوطة يعلم الجميع عدد أفراد تنظيم القاعدة، وهم أقلية صغيرة، وهناك تعهّد من قبل الفصائل (غير المصنّفة إرهابية على لائحة مجلس الأمن) بإخراج أولئك من الغوطة. على الأقل، مخابرات الدول دائمة العضوية لديها معلومات كافية، ولو لم تكن هناك نية «لاستحمارنا» لأمكن تفويض مندوب دولي لإجلاء المصنّفين على لائحة الإرهاب، وكان القرار نفسه قد نصّ على ذلك بوضوح.
أيضاً، لو لم تكن هناك نية للاستحمار، لما كان مقبولاً في المطلق استخدام مختلف أصناف أسلحة الدمار في مناطق آهلة بالسكان للقضاء على «إرهابيين» يتحصنون بينهم. الأمر هنا يشبه تدمير منشأة مليئة بالسكان بسبب تحصن خاطفين فيها، حيث الأولوية وفق جميع الأعراف لحماية حياة الأبرياء، ومن ثم لتقليل الخسائر بينهم إلى أقصى حد في حالة الاقتحام. بالطبع لا يحدث هذا في الغوطة، ولم يحدث في حلب أو غيرها من قبل، ولم يحدث أيضاً أثناء استهداف التحالف الدولي لمعقل داعش في الرقة، لذا تبدو الدول الخمس دائمة العضوية منسجمة مع سياساتها لو لم تتخذ قراراً لا يفيد وضعه سوى كخدمة لتزوير التاريخ، فيما لو تصفحت الأجيال القادمة هذه السجلات كما تتصفح سجلات البطولات أو سجلات الأرقام القياسية.
قد يُقال أن عصبة الفيتو لم تأتِ بجديد يخص السوريين، وفي ذاكرة العرب تحديداً رزمة من القرارات المشابهة التي تخص القضية الفلسطينية، إلا أن هذه المقارنة إذا بدت صحيحة من جانب فهي ليست كذلك من جوانب عدة. القضية الفلسطينية تعود إلى زمن مختلف تماماً، لم تكن فيه المعلومة متداولة على نطاق واسع، ثم إن القوى الكبرى كانت في موقع الداعم لإسرائيل من دون تأييد مطلق للمجازر باستثناء تلك التي حصلت في مرحلة التأسيس، والحروب التي خاضتها إسرائيل منذ اجتياح لبنان لم تحظَ بتغطية دولية، بل كانت حرباً تموز الأخيرتان في لبنان وغزة مناسبتين لتدخل أممي قوي ردع إسرائيل عن تنفيذ مخططاتها، مع التنويه بأن عموم المجازر الإسرائيلية بعد التأسيس لا تُقارن كماً ووحشية بمجازر الأسد وحلفائه.
في الواقع لم تكن القوى الدولية والإقليمية حاضرة في صراع مثلما حالها في الصراع السوري، ولم يكن ملف اللجوء مؤثراً بها كما حدث أخيراً، ولم تكن لامبالية إزاء الإبادة التي تحدث تحت سمعها وبصرها مثلما هو الحال الآن. لا في فلسطين ولا في يوغوسلافيا السابقة ولا في رواندا أو بوروندي كانت موجودة على هذا النحو، وهذه القوى لأول مرة تملك فائضاً من الأدلة على جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، لكنها لم تسعَ ولا لمرة لتفعيل هذا الملف. بل لم يحدث ولا لمرة أن نال مجرم تشجيعاً على المضي بمزيد من الجرائم كالذي ناله بشار الأسد، وما التوقف عند السلاح الكيماوي سوى استكمال للترخيص باستخدام أسلحة الإبادة الأخرى بلا حساب، كأن المضمر في هذه الانتقائية اختلاف في المزاج يحدد نوعية السلاح المفضّل.
ليست المسألة أن العالم خلال سبع سنوات خذل السوريين. هي في أنه استأنف ممارسة الاستحمار الذي مارسته عائلة الأسد من قبل، وهذا سلاح لا يقل فتكاً عن الأسلحة الفعلية التي تُستخدم في الإبادة. بل بلغ الاستحمار في العديد من المحطات ما يشبه القول: نحن نفعل هذا بكم كي نجبركم على العودة إلى حظيرة الأسد بكل ما لكلمة حظيرة من معنى لا من دلالة.
لا يحتاج السوريون من يخبرهم بأن السياسات القذرة كفيلة بإبادتهم بمختلف الأسلحة المادية والمعنوية، فهذه أيضاً معلومة متداولة وممجوجة ضمن سوق يزخر بالمعرفة. الكارثة التي توضحها القضية السورية بما يفوق كل ما سبقها هي خطأ مقولة أن عالماً يعرف أكثر هو عالم أشدّ تفهماً وتقارباً. على العكس من ذلك، تقول الوقائع الحالية أن العالم بات أقلّ تمثلاً لكثرة ما يعرف، وأشدّ وحشيةً وقابليةً لممارسة الاستحمار من جانبيه.