مضى زمنٌ كانت فيه الانتخابات النيابية فيلبنانتستثير اهتماما كبيرا، وتغطية إعلامية واسعة خارج حدود هذاالبلد، إذ كانت هذه المناسبة تجذب الأنظار إلى التجربة النيابية اللبنانية التي يندر وجود مثيل لها في دول المشرق العربي. وكانت تلك الانتخابات تنتهي بصعود رشيد كرامي (الطرابلسي) أو صائب سلام (البيروتي) إلى رئاسة الحكومة. وعلى الرغم من أن الأول كان يحظى بثقة مصر الناصرية، والثاني يتمتع بتأييد الرياض، إلا أن تنافساً سلمياً كان يسود بين الرجلين، بغير استعراضٍ لسلاح أو الاستناد إلىمليشيامسلحة. وقد انتهت "ثورة1958" بعد أشهر على اندلاعها، ضد الرئيس كميل شمعون الذي كان يرمي للالتحاق بحلف بغداد (أميركاوفرنسا وبريطانيا) في أجواء ما بعد العدوان الثلاثي على مصر، وقد استقال شمعون، وانتخب فؤاد شهاب رئيسا، وسلّمت جماعات صغيرة أسلحتها الخفيفة إلى الدولة، وواصل البلد حياته الطبيعية، بل إن فترة الستينيات تقترن بالازدهار على مختلف الصعد.
هذه الأيام، وفيما يستعد اللبنانيون للاستحقاق الانتخابي في مايو/ أيار المقبل، بعد أن كان مجلس النواب مدّد لنفسه ثلاث سنوات، فإن صورة هذا الحدث من خارجه، لا تبدو على تلك الدرجة من الجاذبية، لأسبابٍ منها أن الانتخابات لم تعد بحد ذاتها إنجازا باهرا وفريدا، فالمواسم الانتخابية تتالى في أكثر من بلد عربي، ولها سقفها أو حدودها في تحقيق الإصلاح الداخلي. والسبب الثاني أن التجربة النيابية في بلد الأرز تدور منذ عقود في حلقة مفرغة، فالكتل الطائفية تتسيّد المشهد السياسي والحزبي، وتنتج زعماء أو وجوها جديدة، لكن شيئا ذا بال لا يتحقق على الصعيد السياسي، مع استمرار الإقصاء الذي يتعرّض له المجتمع المدني والتيارات غير الطائفية. ويزداد الأمر تعقيدا مع تحالفٍ لبعض التيارات العلمانية مع قوى طائفية (كتحالف الحزب الشيوعي مع حزب الله، وهو تحالف سياسي وحزبي، لكنه لا يُترجَم انتخابياً إلى مقاعد، أو مقعد نيابي للشيوعيين!).
هذه الأيام، وفيما يستعد اللبنانيون للاستحقاق الانتخابي في مايو/ أيار المقبل، بعد أن كان مجلس النواب مدّد لنفسه ثلاث سنوات، فإن صورة هذا الحدث من خارجه، لا تبدو على تلك الدرجة من الجاذبية، لأسبابٍ منها أن الانتخابات لم تعد بحد ذاتها إنجازا باهرا وفريدا، فالمواسم الانتخابية تتالى في أكثر من بلد عربي، ولها سقفها أو حدودها في تحقيق الإصلاح الداخلي. والسبب الثاني أن التجربة النيابية في بلد الأرز تدور منذ عقود في حلقة مفرغة، فالكتل الطائفية تتسيّد المشهد السياسي والحزبي، وتنتج زعماء أو وجوها جديدة، لكن شيئا ذا بال لا يتحقق على الصعيد السياسي، مع استمرار الإقصاء الذي يتعرّض له المجتمع المدني والتيارات غير الطائفية. ويزداد الأمر تعقيدا مع تحالفٍ لبعض التيارات العلمانية مع قوى طائفية (كتحالف الحزب الشيوعي مع حزب الله، وهو تحالف سياسي وحزبي، لكنه لا يُترجَم انتخابياً إلى مقاعد، أو مقعد نيابي للشيوعيين!).
ومن المفارقات أن لبنان الذي يشهد حضورا واسعا للنساء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، فإن النساء لا حظّ ولا فرصة لهن في الوصول إلى مجلس النواب، وبما يجعل هذا المجلس يضم أقل نسبة من النساء، مقارنة بالمجالس العربية المنتخبة (4 نائبات لبنانيات مقابل 30 نائبة في ليبيا و38 نائبة في الصومال..)، وتفسير ذلك أن التزعّم الطائفي، خصوصا المحافظ منه، "بِدّو رجال".
وقد أثبت النظام الطائفي (تقاسم السلطات والمناصب العليا في الدولة، وكذلك تقاسم مقاعد مجلس النواب بين ممثلي الطوائف) خلال سبعة عقود، أنه قابل للحياة بأكثر مما تصور رافضوه وخصومه الكثيرون من التائقين للتغيير والعصرنة السياسية، فقد تحول إلى ثقافة حياتية لشرائح المجتمع، وذلك مع استقرار القناعة بأنه "إذا تغير هذا النظام، فمن يضمن لي حقوقي في أي نظام بديل؟". وبهذا، فقد أصبحت المحاصصة الضامن والكفيل لحقوق الجماعات. وهذا هو لسان حال الجماعات الكبيرة والصغيرة عدداً. وقد جاء اقتران المحاصصة بالهامش الواسع للتعبير، كي يمنح هذا النظام ميزة "إيجابية". والحال أن سائر الجماعات حريصةٌ على حرية التعبير، كي يكون صوت كل جماعة مسموعاً لا مقموعا في حال وقوع غُبن. ثم كي تكون حرية التعبير هذه تعويضا أو ساتراً يخفي اختلالاتٍ أخرى كالفساد. ولذلك لطالما ردد رئيس وزراء لبنان الأسبق، سليم الحص، إن "لبنان يتمتع حقا بالحرية، ولكنه لا يتمتع بالديمقراطية". علما أن هامش هذه الحرية بدأ يتقلص في الآونة الأخيرة، وذلك لانتشار السلاح بين أيدي فئةٍ بعينها دون سواها.ولأن المشرق العربي عرف بالتجربة الحسية كيف أن الوصفة الطائفية ليست ترياقا أو حلا، وكما دلت التجربة البائسة في العراق ثم في اليمن، فإن تجربة لبنان، من هذه الزاوية بالذات، لم تعد محل إعجاب أو تأمّل، بل موضع تشكيك. وهذا سببٌ آخر يجعل انتخابات هذا البلد بغير أصداء تذكر في الخارج، خلافاً لما كان عليه الأمر في الماضي.
وبينما دعا اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية إلى سن نظام انتخابي يقوم على التمثيل النسبي، فإن القانون الجديد الذي ستجري الانتخابات على أساسه يوم 6 مايو/ أيار المقبل، يأخذ بمبدأ التمثيل النسبي، ولكن مع إضافة ما يُسمى "صوتا تفضيليا" يمنحه المقترع لمرشح من دائرته الصغرى. وهو ما يوفّر فرصة الفوز للزعامات الطائفية، ولمن يتحالف معها ويسير في ركابها. ولوحظ أن الاقتراح باعتماد كوتا نسائية قد تم رفضه، لضمان بقاء المرأة حاضرةً في كل مكان، ما عدا مجلسي النواب والوزراء!
وقد تميز مجلس النواب منذ العام 1992 بحلول نائب واحد في رئاسته، وهو نبيه برّي، بماجعل فترة رئاسته حتى تاريخه تضاهي الفترة التي أمضاها صبري حمادة، أول رئيس مجلس نيابي بعد الاستقلال (1943ــ 1970) على أنه من المقدّر أن يتفوّق برّي على حمادة في طول الإقامة، كونه سوف يترشح مجدداً للانتخابات (بما يبقيه على رأس المجلس منذ 1992حتى 2022). وبرّي من أبرز ممثلي الثنائية الشيعية (حزب الله وحركة أمل). ونظرا لهيمنة التنظيمين على مفاصل الحياة العامة، وعلى أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الجنوب والبقاع والهرمل، فإنه يتعذّر تصعيد نائب شيعي آخر إلى سدة الرئاسة، ومن دون أن يثلم تبوؤ هذا الموقع لهذه الفترة المديدة صورة الديمقراطية الزاهية!
أما حزب الله، فخلافا لكل القوى السياسية في لبنان وفي العالم، فإنه يخوض الحياة النيابية ويزاحم على المقاعد الوزارية، محتفظا، في الوقت نفسه، بجيشه الخاص وأسلحته الثقيلة. وهي حجةٌ يستخدمها الحزب وأنصاره وحلفاؤه، لترديد أن الحزب شريكٌ في الحياة السياسية حزبياً ونيابيا وحكومياً، وهي حجة تُحسب على النظام الانتخابي في لبنان الذي يجيز لحزبٍ مسلحٍ الاحتفاظ بسلاحه والمشاركة في الانتخابات، ولا تُحسب للحزب ذاته الذي يتصرّف كأنه دولة قائمة بذاتها وخارج نطاق الدولة اللبنانية من جهة، وكأنه دولة تشارك الدولة اللبنانية في صنع قراراتها من جهة ثانية، وكمن يتمتع بمزايا الزواج والطلاق في آن واحد!