بات اسم رائد زعيتر، القاضي الأردني-الفلسطيني الذي قُتل، في آذار (مارس) من العام الماضي، على يد قوات الاحتلال الصهيوني في الأمتار الأولى بعد اجتياز نهر الأردن، أشبه بلازمة تسمعها كلما انتقلت عبر جسر الملك حسين.
الأسبوع الماضي، طلب طفل عمره "ثمانية أعوام وشهران"، في باص الجسر، من والده أن يخبره أين استشهد زعيتر. سألتُ الطفل: من أين عرفت بقصة رائد زعيتر؟ قال: إنّ هناك برنامجا اسمه "تشويش واضح"، على قناة رؤيا. وبعد نقاش مع الطفل، أوصاني بتعليمات دقيقة: الذهاب إلى "يوتيوب"، والبحث عن "تشويش واضح top 11". وقال لي: ستكون قضية رائد زعيتر "تقريباً القضية الرابعة" للعام 2014. وبالفعل، اتضح أنّ البرنامج صنفها كرابع قصة شغلت الرأي العام الأردني العام الماضي. وقال والد الطفل له: إنّه في طريق العودة من زيارة فلسطين سيحرص أن يعودوا نهاراً، وليس ليلاً، حتى يوضّح له تماما أين استشهد القاضي رائد زعيتر.
حيث استشهد زعيتر، كانت محطة يطلب فيها عادة من المسافرين النزول من الحافلة، من دون أي سبب واضح، ولا أي وظيفة أمنية. وبعد أن ينزلوا يطلب إليهم الصعود مجدداً. وبما أنّ هذه العملية قد تستغرق ربع إلى نصف ساعة، فإنّه في أيام الأزمات كان الأمر يعني أن ننتظر في حافلات متتالية ثلاث إلى أربع ساعات، لننزل بالدور، خصوصاً إذا قرر الجنود أخذ استراحة، أو انشغلوا بأمر ما. وكان هذا يعني أن يقضي خمسون شخصا من مسنين وأطفال ونساء ورجال وغيرهم، ساعات داخل الحافلة لا يسمح لهم بالنزول منها أبداً، بما في ذلك أيام الحر الشديد. وكان الحل أحياناً يعني نوعا من "البزنس"؛ بأن يدفع الشخص نحو 50 دولارا ليركب سيارة "VIP"، ولا ينتظر مع الباصات. وهو ما يشكل للبعض همّا إضافيا، لأنه نوع من الطبقية، تضاف لطبقية الذين لديهم "تنسيق" أمني مع الاحتلال؛ فلا يقفون في طوابير الانتظار الأخرى أيضاً. والآن، لم يعد "الناس" ينزلون من الحافلة. ورغم أنّ الأمر (وقف النزول من الحافلة) مضت عليه أشهر، إلا أنّ المسافرين ما يزالون يتوقعون النزول. وعندما يكتشفون أنّهم لم يعودوا مطالبين بذلك، يكون رد الفعل التلقائي الذي سمعته مراراً "الله يرحمه"، في إشارة لزعيتر. ومن غير الواضح (لي على الأقل) وجود رابط بين استشهاد زعيتر وتوقف النزول في هذه النقطة.
على أنّ هذه المحطة الملغاة ليست الوحيدة. إذ هناك محطات شبيهة أخرى لم تلغَ. فهي تتكرر، مثلا، بين ما يسمى الاستراحة في أريحا والمحطة الحدودية التي يسيطر عليها الصهاينة، والتي كان يُفترض، بموجب اتفاقيات أوسلو، أن يتواجد فيها الفلسطينيون مع علمهم وصورة ياسر عرفات، فيما يكون الوجود الإسرائيلي مخفيا، في ترتيب كان يتوقع أن يكون مؤقتا لحين إلغاء هذا التواجد. لكن حتى التواجد الفلسطيني الشكلي ألغي الآن. وفي المحطة بين الاستراحة والحدود، يطلب دائماً من المسافرين النزول من الحافلة، والمرور ببوابة تفتيش معدنية. والمضحك المبكي الذي لا يخلو من إذلال، أنّه في كثير من الأحيان لا يكون هناك جنود يراقبون المسافرين؛ فنمر من دون اكتراث بأجراس الإنذار. لكن الفكرة أنّ عليك أن تنزل من حافلة لأخرى جديدة كليا، من دون أي سبب أو هدف.
ما بين القدس وعمّان نحو 88 كيلومترا. إلا أنه يفرض على المسافر تغيير ما لا يقل عن ست وسائل مواصلات مختلفة، في كل طريق. والمحصلة طريق مجللة بالإذلال. لكن في العام الماضي أضيف إليها الدم والشهادة، ومأساة لن ينساها حتى الأطفال. وبطبيعة الحال، يمكن توثيق قصص موت ومعاناة أخرى كثيرة، أثناء هذا السفر.
المفارقة أنّ ملايين اللاجئين الفلسطينيين أقصى أحلامهم عبور هذه الطريق بكل معاناتها، لزيارة فلسطين ورؤيتها، مع المنع الإسرائيلي الدائم لهم من دخول وطنهم.
السؤال، عدا عن أين وصل ملف رائد زعيتر ولماذا لم نسمع بمتابعته، هو: لماذا لا تثار كل سياسات الاحتلال على الحدود؟