تأخُذنا واقعة تسلّل باحث الآثار، "المؤرّخ"، المستوطن الإسرائيلي، زئيف إيرليخ، إلى جنوبي لبنان، مرتدياً زيّاً عسكرياً، ومعه سلاحُه، وبرفقة قوةٍ من جيش الاحتلال، بقيادة رئيس أركان لواء جولاني، العقيد يؤاف يارون، تأخُذُنا إلى واحدةٍ من أبرز قضايا الاستعمار والجيوش الغازية، وهي مواكبة مؤرّخين ومستشرقين وعلماء آثار حملاتٍ عسكرية، وإنتاج بعضهم معارف ومطالعاتٍ تُخضع تاريخاً في البلاد المغزوّة لمقاصد ثقافية بعيْنها بغرض بناء تسويغٍ علميٍّ لأحقّية تابعيّة هذا البلد بالمستعمر، ولمحْو أي تاريخٍ خاصٍّ لهذا البلد وشعبه. عدا عن رسّامين عرّفنا دارسو الاسشراق بأنهم عملوا جواسيس، ورسموا معارك "بطولات" الغازين، ومنهم الفرنسي أوجين ديلاكروا في الجزائر والمغرب. ولأن هذا المبحث طويلٌ، فإن هذه السطور لا تتورّط فيه، وتُؤثر البقاء في أوهام "الآثاري" الإسرائيلي السبعيني (مواليد 1953)، الذي نال منه كمين مقاومين في حزب الله، أردوه قتيلاً، فذهب ضحيّة أوهامه التي دخل لبنان بها، فقد أراد العثور على "أدلةٍ" لاستيطانٍ إسرائيليٍّ قديم في مقام النبي شمعون في بلدة شمع اللبنانية الجنوبية، وهو الذي نشط في أمرٍ كهذا في مواقع أثرية في فلسطين، وقرأنا أنه "أنجز" كتباً وأبحاثاً في هذا الخصوص، علماً أنه يهودي من أصل بولندي، وكان ضابطاً في جيش الاحتلال ثم في المخابرات، ويوصف بالتطرّف، فقد درس في مدارس دينية صهيونية، وتخرّج من الجامعة العبرية في "تاريخ الشعب الإسرائيلي"، التاريخ الذي نشط في اختلاقه، بنسبة لقىً أثرية في بلدات وقرى فلسطينية جال فيها، وبرفقة عسكريين رسميين، إلى هذا الشعب، على ما ظلّ يكتب في الصحافة العبرية ويحاضر في جنود جيش الاحتلال وضبّاطه.
كأن هذا القتيل يؤكّد البديهية التي اختصّ في بحث شواهد غزيرة على صدقيّتها مؤرّخون وباحثون فلسطينيون وعرب وأجانب، أن الصراع الذي تخوضُه المؤسّسة البحثية الإسرائيلية على الماضي هو، في الصميم، صراعٌ من أجل السيطرة على الحاضر. وكان كتاب البريطاني كيث ويتلام "اختلاق إسرائيل القديمة... إسكات التاريخ الفلسطيني" (نقلته إلى العربية سحر الهندي، وصدر في 1999 ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت)، شديد العلميّة في حسمه أن التاريخ اليهودي القديم جزءٌ من التاريخ الكنعاني (أو الفلسطيني القديم). ويتعزّز هذا المنظور بالذي أكّده دارسون (منهم سلفيت تروني) عن "عسكرة" الحركة الصهيونية اكتشافاتٍ أثريةً ومادّيةً قديمةً في فلسطين بغرض السيطرة على هذه البلاد وشعبها. وهذا زيّ زئيف إيرليخ، العسكري، وخوذتُه، وسلاحُه الشخصي، وهو المدني بحسب بيان لجيش الاحتلال (وهذا صحيح)، يزوّدنا بشاهدٍ شديد الوضوح على واحدٍ من وجوه "العسكرة" هذه، فليس تفصيلاً عارضاً أن العلاقة بين الصهيونية، السياسية والدينية، وعلم الآثار، عضوية، وسيرة هذا المتسلّل في أرضٍ لبنانيةٍ، مدفوعاً بأوهامه (أو خرافاته) الخاصّة، (العامّة في مطالعةٍ أخرى)، تسلّحنا بقرينةٍ قويةٍ على صحّة هذا القول القديم الجديد. ولم يُجانب الحقيقة وزير الثقافة اللبناني، محمد المرتضى، عندما قال إن "الغاية المُعلنة من دخول هذا الجندي المزوّر إلى مقام النبي شمعون، وهي البحثُ عن أدلّة تاريخية مرتبطة بأرض إسرائيل، تؤكّد، مرّة أخرى، الطبيعة التوسّعية العدوانية لهذا الكيان الذي لن يكتفي باحتلال فلسطين أرضاً وتاريخاً وتراثاً، بل هو ساعٍ أيضاً إلى احتلال لبنان أرضاً وتاريخاً وتراثاً".
ليس الفلسطينيون في حاجةٍ إلى أن يُنفقوا وقتاً كثيراً في الانشغال بالمزاعم الخائبة التي يتمنطق بها الإسرائيليون، غلاتُهم وبعض معتدليهم، عن "حقّ الشعب اليهودي في أرض الميعاد"، والتي تحاول التسلح بالعلم، عندما تتوسّل اللقى والفخّاريات والحفريات (و... إلخ) وتخلع عليها ما لا يخصّها من تاريخ. الفلسطينيون في حاجةٍ إلى أن يُنفقوا الوقت الأكثر في تأكيد عدالة قضيّتهم، قضية إنهاء احتلال استيطاني عنصري، وقضية عدالة شديدة الإلحاح حقّاً لهم. وكذلك حقّهم في مقاومة المعتدين والغازين، على ما يفعل أبطالٌ صابرون مجاهدون في غزّة، وعلى ما يصنع في لبنان من سلمت أيديهم وهم يُجندلون زئيف إيرليخ قتيلاً، في بلدة شمع، وقد توهّم هذا حقّاً إسرائيلياً فيها، فاستحقّ الرصاصات التي صرعته.