ها هي شمس روسيا تشرق من جديد على العالم وأشعة دبلوماسيتها تفرش بقاع العالم من أوروبا إلى الهند والصين إلى تركيا وإيران إلى سورية ولبنان .. وبيدها مفاتيح الاقتصاد الأورو- آسيوي الواعد.
روسيا الصاعدة من جديد والمحطمة لثلوج سيبريا بحرارة الحراك السياسي
وثقل الدور على الساحة الدولية وفاعليته ترسم نفسها على خارطة العالم قطباً بكل ما
للكلمة من معنى، معلنة انتهاء عصر القطبية الأحادية ومكرسة لمفاهيم جديدة حول
النظام العالمي الجديد من بوابة التكتلات الإقليمية والدولية الاقتصادية
والسياسية، وكأنها تعلن ومن معها نفس مبدأ جورج بوش في الحرب المزعومة على الإرهاب
"من ليس معنا فهو ضدنا" لكن بالطبع وفق منطق مختلف لا يقوم على التهديد
بالقوة والترهيب بها بل يقوم على منطق الفرصة الفائتة والخسارة الإستراتيجية، فمن
لن يكون مع روسيا وتكتلها سيكون خاسراً بالمعنى الإستراتيجي سياسياً واقتصادياً،
ومفوتاً لفرصة الانتعاش الاقتصادي وعقود المليارات من الدولارات التي يمسك بها
بوتين ولوح بها من أنقرة والهند.
هي سياسة الاحتواء الإستراتيجي التي تقلب معادلات السياسة القائمة على
مبدأ نفذ ثم استفد عندما يتم اقتسام الكعكة بعد نضوجها، فروسيا اليوم تعكس هذا
المبدأ فهي تقدم المنافع مسبقاً على أي مقابلات مطلوبة في السياسة فتصبح هذه
المنافع بذاتها متطلبة بالضرورة لتغيير جوهري في السياسة ليتم الحفاظ عليها
وتكريسها.
فالسياسة الروسية تروج نفسها وفق مفاهيم معكوسة تماماً لمفاهيم
ومبادئ السياسة الأمريكية في عصر القطبية الأحادية التي اعتمدت مبدأ التطويع
والمكافأة وفق علاقة قائد وتابع، فهي اليوم تسوق نفسها وفق مبادئ احترام القانون
الدولي والتوازن الإستراتيجي العالمي بمعنى انتفاء علاقة القائد والتابع على أساس
منظومة من التشارك بالمصالح وفق نسب تجعل من التحالفات الاقتصادية ضرورة بالنسبة
لبعض الدول لتحسين مستوى النمو الاقتصادي لديها وبالتالي تصبح السياسات الإقليمية
والدولية رهناً بالتحالفات الاقتصادية هذه ومرتبطة بسكة تطورها.
هنا لا مفر من الدخول في عمق هذه التحالفات لتحقيق منافع أكبر في ظل
تنامي الحاجة لمواجهة التحديات الاقتصادية المختلفة وتأمين حصص واعدة من النفط
والغاز والطاقة عموماً في المرحلة المقبلة التي سيكون عنوانها الصراع على الطاقة،
وبهذا المعنى يصبح من ليس مع روسيا اليوم خاسراً دون أن تهتم روسيا إذا كان ضدها
أو لا في السياسة، ودون التقليل من أهمية العامل الجيوسياسي في تشكيل
التكتلات الاقتصادية الجديدة لكن بطبيعة الحال هناك بدائل على الدوام والمنفعة المشتركة
جاذبة أكثر بكثير من استخدام آلة الترهيب السياسي على النموذج الأمريكي.
بكل الأحوال إن عصر الترهيب بالقوة ونشر الفوضى سينتهي إذا ما انتهت
الأزمة في المنطقة ولاسيما في سوريا وتوقفت رحى الحرب من خلال صيغة تفاهم إقليمي
ودولي كبير على تقاسم منظومة المصالح التي هي كانت وستبقى العنصر الرئيس في إشعال
الحروب والأزمات في العالم عبر التاريخ، ذلك لأن ما جرى في المنطقة كان أشبه
بحرب عالمية بكل معنى الكلمة على مستوى الاستقطابات الإقليمية والدولية وعلى مستوى
الأدوات المستخدمة في هذا الصراع، من هنا نجد أن الاستثمار بسياسة الترهيب
بالقوة وصل حده الأقصى من خلال ما جرى في المنطقة والعالم وبالتالي تشكلت قناعة
لدى جميع الأطراف بضرورة إيجاد صيغ ومفاهيم جديدة للقوة تتجاوز القوة العسكرية
المباشرة وبالتالي سيصبح شعار مكافحة الإرهاب ومتطلباته من إيجاد المنظمات
الإرهابية ونشرها في العالم عبئاً حتى على من يؤمن بهذا الشعار وسياسته لأن كلفة
تنفيذه كبيرة عدا عن مخاطرها وجدواها، وهنا بيت القصيد فالجدوى اليوم من
الاستمرار بمثل هذه السياسة بات على المحك من خلال واقع التجربة وعدم النجاح في
تحقيق الأهداف الإستراتيجية في المنطقة حتى الآن بمعنى تغيير الخارطة السياسية
والديموغرافية للمنطقة وإسقاط الدولة السورية وكسر التحالف بينها وبين إيران وحزب
الله وسد المعبر الرئيسي لروسيا إلى الشرق الأوسط وهو سوريا.
وعلى هذا الأساس فإن الاستمرار بدعم الإرهاب وسياسة مكافحته المزعومة
لن يجدي نفعاً في ظل مرور الوقت دون تحقيق النتائج المطلوبة ، وبالتالي يصبح البحث
عن بدائل تحافظ على التوازنات الإستراتيجية ربما أمراً مطلوباً بإلحاح لا بل ربما
البحث عن بدائل أقل كلفة أمراً ضاغطاً بالمعنى الإستراتيجي الذي يجنب حلف العدوان
على سوريا أولاً مواجهة تداعيات الدعم المقدم للتنظيمات الإرهابية على المستوى
الإقليمي والدولي وعلى المستوى الداخلي في مجتمعاتهم أيضاً ولذلك كانت محاولة
الالتفاف على هذا الواقع الضاغط بإعلان سياسة مكافحة داعش والحلف الدولي ضدها،
إضافة إلى الكلف المالية الضخمة المنفقة على هذا الدعم وفي نفس الوقت مواجهة سياسة
الإغراءات الاقتصادية الواعدة التي تروج لها روسيا.
وهنا أعتقد أنه لا يمكن حدوث أي تغير في واقع الاصطفافات الإقليمية
والدولية إلا بعد اكتمال نضج القناعة لدى بعض الأطراف باستحالة الاستمرار في
الصراع بالاعتماد على نتائج محتملة يمكن أن تحققها التنظيمات الإرهابية على الأرض،
إضافة إلى انعدام هامش المراوغة والتحرك السياسي من زاوية تحقيق المنافع والشراكات
الاقتصادية مع الاحتفاظ بنقاط الخلاف السياسي إقليمياً ودولياً، وهذا ما
حاول أردوغان أن يحققه خلال زيارة بوتين لأنقرة والذي لا أعتقد انه سيستطيع تحقيقه
فعلاً فالقيصر الروسي لم يأتِ لأنقرة بكل تلك المنافع الاقتصادية مجاناً أو دون
مقابلات حقيقية من شأنها إضعاف الخصم الأساسي إقليمياً وهو الولايات المتحدة،
فسياسة الاحتواء الروسية لأنقرة ليست سياسة جوفاء منقوصة ولا تنحصر فقط بالموقف
التركي حيال سوريا فحسب بل تتجاوز ذلك لتصل إلى حد التأثير على تركيا لإخراجها
تدريجياً من حلفها مع الولايات المتحدة بما يعني إلغاء نشر الدرع الصاروخية
الأمريكية فوق الأراضي التركية وإحداث ثقب كبير في جدار العزل المزمع إقامته
أطلسيا حول روسيا.