فقد بدت هذه العلاقة حميمة صافية من أول يوم لنزول الوحي على قلب نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما ذهبت خديجة بمعية الحبيب عليه السلام إلى ورقة بن نوفل، وكان من علماء النصرانية وقد بلغ من الكبر عتيّا، ولمّا أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بما حدَثَ معه في غار حراء قال له ورقة" : أبشر ثم أبشر ثم أبشر ، فإنّي أشهد أنك الرسول الذي بشّر به عيسى" (ابن أبي شيبة، المصنّف، كتاب المغازي).
وعندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام في نعومة أظفاره برفقة عمّه أبي طالب في رحلة إلى بلاد الشام مروراً ببُصرى اعترض القافلة البطريك بحيرى الراهب، ونصح بأنْ لا يواصل محمداً هذه الرحلة معهم قائلاً: "احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إنّ اليهود حُسَّدٌ، وإنّي أخشاهم عليه" (ابن سعد في الطبقات الكبرى(، وهذه قصة ثانية تُسجّل لأتباع المسيح عيسى عليه السلام في حرصهم على النبوّة أنْ تُغتال أو ينالها أذى.
وعندما رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنّ الدّعوة حوصرت في مكة، وأنها لم تَعُدْ تكسب أنصاراً جدداً حاول فكّ الحصار وخرج متوجّهاً إلى الطائف، حيث واجه هناك أشدّ أنواع الأذى، إلى أنْ جاء غلامٌ نصراني اسمه عدّاس يحمل الفاكهة على طبق ويقدّمها للنبي عليه السلام، وعندما علم أنه نبيٌ حقاً طفق يقبل رأس النبي ويديه معتذراً عن سفاهة السفهاء (انظر: السيرة النبوية، ابن هشام )، وهذه حادثة ثالثة يسجّلها تاريخ السيرة النبوية لأتباع المسيح عليه السلام.
وبعدما ضاق الأمر على أصحاب النبي عليه السلام وبلغ الإيذاء مبلغاً عظيماً قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفرّقوا في الأرض فإنّ الله سيجمعكم، فأشاروا إليه أنْ إلى أين؟ قال: إلى الحبشة فإنّ فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد.
ومعلوم أنّ ملك الحبشة نصراني، فرحب بالوفد المهاجر، واستمع إليهم إذ قرأوا سورة مريم، وقال: والله إنّ هذا والذي جاء به موسى عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة. ورفض تسليمهم إلى وفد قريش الذي جاء يطلبهم.
وقد صلى النبي الكريم عليه صلاة الغائب عندما نُعيَ إليه، وتلا قوله تعالى: "وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (آل عمران: 199).
ولمّا أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بإدارة الحوار مع أهل الكتاب وجّه الدعوة إلى نصارى نجران لزيارة المدينة المنورة من أجل الوصول إلى كلمة سواء معهم، حيث أقام البطاركة في المسجد النبوي الشريف طيلة مدّة الزيارة على الرّحب والسّعة، وسمح لهم النبي عليه الصلاة والسلام بإقامة صلاتهم في المسجد حيث بلغ من إعجاب بعض أعضاء الوفد بالدين الجديد أنْ دخلوا في الإسلام، وأمّا الآخرون فقد طلبوا إيفاد أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ليُعلِّمهم بعض أحكام المعاملات التي لم يكن لديهم بيان حولها، فأرسل النبيّ عليه السلام معهم أمين الأمة أبا عبيدة يعلمهم، وهذه ثمرة من ثمرات الحوار الجاد الصادق (ابن القيم، زاد المعاد).
أمّا آخر ما أحببت أنْ أذكره فهو قصة فتح بيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي تسلّم مفاتيحها من البطريك صفرنيوس، إذ تصافحا، وأغمدا السيوف وأعملا لغة الحوار، فكان دخول عمر والجيش الإسلامي كلّه سِلماً لا حرباً، وكان أول عمل عمله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو دخول كنيسة القيامة وتفقّدها قبل دخول المسجد الأقصى في إشارة إلى تقبّل الآخر واحترامه والتعامل معه بإيجابية.
هذا هو سادتي ما نقوله نحن معشر المسلمين لطلابنا وأبنائنا، وللمصلين في مساجدنا.
ويا ليتنا نسمع من السادة الرهبان ورجال الدين المسيحي ما يوثّقُ هذه العلاقة وينمّيها حرصاً على نهضة دينية في طريقنا إلى كلمة سواء.
وبهذه المناسبة أؤكد أننا معشر المسلمين نفرح لميلاد سيدنا المسيح عيسى بن مريم مثلما نفرح لميلاد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ذلكم أنّ كلاً من النبيين الكريمين جاء رحمة للناس ومشعل هداية وبشرى للمؤمنين، وفي هذا يقول المولى سبحانه في شأن عيسى عليه السلام: " وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً" (مريم:21) مثلما يقول في شأن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم "وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107).
والمسلمون يعرفون عن جدّة المسيح (امرأة عمران) وعن أمه مريم عليها السلام الكثير، حيث أفرد القرآن الكريم سورة كاملة للحديث عن مريم عليها السلام، وتجد حديثاً مستفيضاً عن المسيح وأمه عليهما السلام في سور كثيرة، منها سورة آل عمران، وسورة المائدة والأنبياء، والمؤمنون، والزخرف، والصف، وغيرها.
وتكتمل فرحتنا بهذه المناسبة عندما نرى مظاهر الفرح محكومة بما جاء به المسيح عليه السلام من مباديء العقيدة وأخلاقيات الدّين التي يلخّصها قوله تعالى: "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّاً" (مريم: 30-33).
الدكتور عبد الرحمن سعود إبداح
30/12/2014م