منذ سنتين تقريبا اشتعل الحماس من جديد لسيناريو التقسيم في المشرق العربي، وتنافست مراكز أبحاث غربية على رسم الخرائط المحتملة لدويلات المنطقة الجديدة، فيما عرف بـ"سايكس بيكو2".
لم يكن هذا الاهتمام ترفا فكريا وسياسيا لباحثين أو مجرد طموح "مؤامرة" تحاك في دهاليز أجهزة الاستخبارات العالمية، بل استجابة موضوعية للسياق الذي اتخذته التحولات العاصفة في دول مثل سورية والعراق ولبنان، وحتى اليمن. أي البلدان ذات التركيبة الطائفية المتعددة.
وإذا كانت "سايكس بيكو1" قد اقتصرت على دول بعينها، فإن طبعتها الثانية توسعت لتشمل السعودية ومصر في بعض الأحيان.
لكن اللافت في جميع السيناريوهات المفترضة أنها تستثني الأردن من خرائطها؛ فقط خريطة واحدة جعلت من الأردن "ولاية" من ولايات دولة الخلافة التي أسسها تنظيم "داعش" في العراق. ويبدو أن مصدر الخريطة هو التنظيم ذاته!
والسؤال؛ ماالسبب الذي يجعل الأردن بمنأى عن خطر التقسيم؟ وسؤال آخر لا يقل أهمية: إذا كان التقسيم مؤامرة غربية، فلماذا يستثنى منها الأردن؟
دعونا نجتهد أولا في البحث عن جواب للسؤال الثاني؛ فنظرية المؤامرة أكثر ما يدغدغ عقول العرب، وإليها ينسبون كل مصائبهم.
لست من أنصار هذه النظرية حتما. لنأخذ العراق مثلا. قبل عشر سنوات تقريبا سقط العراق في قبضة الاحتلال الأميركي، وكان بوسعه أن يفعل فيه مايشاء. لكن قوات الاحتلال غادرت العراق وهو موحد، ولم يطفُ على السطح خيار التقسيم إلا بعد سنوات من حكم نوري المالكي، الذي أخذ على عاتقه "تطفيش" السنة العراقيين، وإقصاء الكرد، ودفعهم للتفكير بخيار الانفصال.
سورية مثال آخر؛ من كان يتصور أن سورية الخاضعة لحكم قوي وعنيف يمكن أن تنزلق إلى حرب طائفية وتواجه خطر التقسيم؟!
ما أود قوله هنا أن الصيرورة الداخلية لكل بلد هي التي تحدد مستقبله وليس أجهزة الاستخبارات العالمية والجواسيس من أصحاب القوة الخارقة كما يتوهم البعض.
لاشك أن السبب الرئيسي الذي يجعل الأردن خارج حسابات التقسيم هو تركيبته الاجتماعية المختلفة إلى حد كبير عن بلد مثل العراق أو سورية. والسبب الثاني قدرة مكوناته؛ دولة ومجتمع على إدارة الأزمات وتجنب الصدام الدموي.
لا يقنع مثل هذا التفسير بعضنا؛ فثمة اعتقاد سائد بأن استقرار الأردن واستمراره كبلد موحد هو جزء من المخطط الغربي الخبيث، كونه يقع بجوار إسرائيل، وعليه يتعين الحفاظ على الأردن من أجل حفظ أمن إسرائيل فقط لاغير، وكأن سورية المهددة بالتقسيم لا تربطها حدود مشتركة مع إسرائيل، ولبنان المرشحة لمصير مشابه تقبع في قارة بعيدة.
صحيح أن أمن إسرائيل خط أحمر بالنسبة للغرب، لكن من قال إن تقسيم الأردن لايخدم هذه النظرية الأمنية الإسرائيلية؟
وللوصول إلى نتيجة منطقية علينا في بعض الأحيان أن نطرح السؤال بشكل معاكس؛ لو تعرض الأردن لظروف مشابهة لسورية، هل كان لخرائط التقسيم أن تستبعده؟
المسألة لا تتعلق بطبيعة النظام السياسي فقط، بل صلابة البنية الإجتماعية، بدليل أن خطر التقسيم يهدد بلدا مثل سورية محكوما بنظام الحزب الواحد، والعراق الذي يدار منذ سنوات بنظام ديمقراطي يعتمد الانتخابات مع ما عليها من ملاحظات.
مخططات التقسيم تتجاهل الأردن ليس لأنه حليف للغرب، ويقيم علاقات مع إسرائيل؛ فهذه العوامل على أهميتها لم تنقذ أنظمة في المنطقة. الوضع الداخلي هو العنصر الحاسم، فإلى متى تصمد الجبهة الداخلية؟