بعد أن هدأت الأوضاع في معان، لم نعد نسمع صوتا للحكومة وأجهزتها الرسمية، وكأن الأزمة التي أشغلت وأقلقت الرأي العام الأردني قد انتهت بانتهاء العملية الأمنية هناك. أصوات الفعاليات الشعبية في المدينة تقول غير ذلك، بدليل الاجتماعات التي لم تتوقف والبيانات التي يتواتر صدورها، والصرخات التي تطلقها شخصيات حريصة ومسؤولة، بضرورة العمل الجدي لمعالجة أزمات المدينة المزمنة، حتى لا يتكرر ماحدث مؤخرا.
والحقيقة أن المقاربة الرسمية في التعامل مع مشكلة معان، هى تقريبا ذات المقاربة في التعامل مع أزمات ومشاكل مماثلة؛ يبرز إشكال في منطقة من مناطق المملكة، يتدخل الدرك، وتصبح تلك المنطقة حديث وسائل الإعلام لعدة أيام، ثم وما إنْ تنسحب قوات الدرك لا يعود هناك ذِكْر للموضوع. بمعنى آخر نبدأ بالدرك وننتهي به. هل هذه هي حدود مشاكلنا؟
الشواهد الكثيرة تفيد بعكس ذلك؛ فما من منطقة أو بؤرة أمنية إلا وتعود إلى مربع الأزمة من جديد وبعناوين جديدة.
من الطبيعي أن يتدخل الأمن لفرض سلطة القانون، واستعادة الاستقرار بالمعنى الأمني، لكن وكما هو الحال في كل الدول، هذا ليس نهاية المطاف. ينبغي على طواقم الدولة ومؤسساتها، وبعد انسحاب القوة الأمنية أن تدخل بخبرائها وكوادرها المسؤولة، لمعاينة الأزمة من جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، للوصول إلى تحليل موقف شامل وعميق لجذور الأزمات المتتالية، والشروع في معالجتها بخطط طارئة وأخرى متوسطة وطويلة المدى.
لم أسمع عن فريق بحث زار معان بعد الأحداث الأخيرة، ولا غيرها من مناطق في المملكة تشهد صدامات أمنية وأزمات لا تقل خطورة عما حدث في معان. هل هناك غير المؤسسات الأمنية من يتابع الحالة؛ بلدات وأحياء تشهد صدامات مستمرة يسقط فيها قتلى وجرحى، كالجبل الأبيض في الزرقاء مثلا، ومثله الكثير في عديد المدن الأردنية؟
هل تتابع أجهزة الحكومة التحولات في العلاقات الاجتماعية بين سكان بلدة واحدة تشهد جريمة قتل، وما أكثرها في أيامنا هذه؟
أجزم ان ذلك لايحصل أبدا، بدليل أن"جلوات" عشائر وعائلات عن أماكن سكناهم تستمر لسنوات قبل أن يتمكن أهل الخير من حل المشكلة وعقد الصلح.
لقد فهمنا تخلي الدولة عن أدوار رئيسية لها في سياق عملية التحديث والإصلاح الإقتصادي. لكن ليس مفهوما أبدا أن تفك أجهزة الحكومات وسلطاتها ارتباطها بالمجتمع، وتكتفي بالرابطة الأمنية.
يشفق المرء كثيرا على قوات الدرك والأمن، فهي تتحمل فوق طاقتها، وتضطر للتدخل باستمرار لتعويض حالة العجز التي تعاني منها مؤسسات أخرى، تلقي بكامل المسؤولية على الأمن، ولا تقوم بواجبها في متابعة الأزمات ومعالجتها.
المجتمع الأردني يزداد اغترابا عن دولته، ومؤسساتها، ولم يعد يرى منها غير الوجه الأمني. هذا أمر ضار، وبدأنا نلمس نتائجه السلبية في السلوك العام للمواطنين، وتعاطيهم في مختلف شؤون حياتهم، لا بل وفي نظرتهم المتشائمة حيال المستقبل، ومردها حسب تقدير الخبراء شعور عام بتخلي الدولة عن واجباتها.
قد لا يكون هذا الشعور صحيحا، لكنّ عجز المؤسسات عن إدارة الأزمات وحلها يولد روحا إنفصالية.