االشهيد نجيب البطاينه على ارض ليبيا
زيـــــــــــاد البطاينه
في تاريخ الأردن الوطني عدد من القادة الذين حفظ الشعب العربي أسماؤهم وحمل لهم أعمق الحب والاحترام ، مع أن تفاصيل حياتهم ونضالاتهم لا نجدها إلا بعد رحيلهم عنا ، إما في مذكراتهم ، حيث تنشر بعد قضاء الله بهم ، وإما في مقالات ودراسات صحفية ، يقوم بمهمة كتابتها وطنيون حريصون على الحفاظ على ذاكرة الوطن والأمة ، والرجال الأبطال الذين ناضلوا من أجل الأمة والوطن.
وإن كنا اليوم نكرمهم بقراءة سير حياتهم فإنما نحيي قيماً وأخلاقاً حميدة تتمثل بالواجب والوفاء والإقتداء بهؤلاء السلف.
وقد شهدت الفترة الأخيرة قيام المؤرخين العظام بإعادة قراءة تاريخ الأردن وتاريخ أبنائه المخلصين الذين ما تأخروا يوماً عن تقديم أنفسهم وأرواحهم في سبيل هذا الوطن أو في سبيل هذه الأمة ، فهم بحق رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وهذه قصة من قصص الأردنيين الذين دافعوا عن قضايا الأمة شرقها وغربها ولبوا النداء ونفروا خفافاً وثقالاً في سبيل قضاياها
هو الحديث عن رجل عانق الشمس من أجل أن يصنع للوطن مكاناً يليق بشعبه وأمته، وهو لا يفرق بين مشرق الوطن ومغربه، فناضل عسكرياً في الجيش العثماني، واستشهد قائداً مجاهداً في صفوف الثورة الشعبية الليبية،
وصدق دولة المرحوم سليمان النابلسي الذي قال: أرى في الشعب الأردني شعباً فريداً بين الشعوب العربية، فهو لم يضرب مرة من أجل مصالحه الخاصة، ولم يقم بمظاهرة في سبيل منافعه الذاتية، ولم تنزل قطرة دم واحدة منه من أجل قضية محلية. كل تضحياته قدمت في سبيل إخوانه في فلسطين وسوريا وليبيا والجزائر و اليمن..
ومن بين هؤلاء الرجال المجاهدين الشهيد نجيب بن سعد العلي البطاينة.
ولد المجاهد نجيب البطاينة عام 1882 في مدينة إربد في (منطقة البارحة) وقد نشأ في بيت والده الشيخ سعد العلي البطاينة شيخ مشايخ بني جهمة وهو في من أهم زعماء منطقة الشمال حيث كان يقصده القاصي والداني لحل الخلافات والمنازعات وعمل أيضاً على إصلاح ذات البين. وقد اعتمد من السلطة التركية آنذاك كزعيم لهذه الناحية وكان عضواً من مجلس إدارة القضاء.
ووضع الشيخ سعد العلي نصب عينيه أن ينشئ أبنائه على احترام الأسس والمبادئ والقيم العربية الأصيلة حيث صقلت شخصيتهم متحلين بثقافة واسعة وإرث تاريخي عظيم.
وقد شارك الشيخ سعد العلي بالكثير من المؤتمرات التي كانت تعقد للتنديد بالاستعمار الفرنسي والبريطاني الذي كان مسيطراً على المنطقة ، والتشجيع على قيام الإمارة ومن أهم هذه المؤتمرات مؤتمر أم قيس ومؤتمر قم وقد شارك في هذه الاجتماعات جميع الزعامات المحلية ومشايخ الأردن وهكذا فقد كان الشيخ سعد العلي البطاينة جامعاً بين الوجاهة العشائرية والوطنية والقومية في آن واحد.
تلقى المجاهد نجيب بن سعد البطاينة العلوم الأساسية القراءة والكتابة في مكتب القرية لتعليم القرآن ثم انتقل إلى مدرسة إربد الابتدائية بعد ذلك سافر إلى دمشق ليكمل دراسته في مدرسة عنبر.
وفي عام (1901) إستأذن والده بالسفر إلى الأستانة لمتابعة دراسته في الكلية العسكرية وتخرج برتبة ملازم ثان وذلك عام (1905) بعدها تابع أمور البادية والحدود والمناطق الصحراوية ، وبدأ عمله الوظيفي كقيمًّ للحج ومرافقاً لأمير الحج ثم نقل إلى الفرقة (14) والتي تتواجد في سوريا ولبنان والأردن.
وقد تحدث المؤرخ قائلاً: كانت سرية المجاهد نجيب سعد العلي البطاينة متمركزة في قرية (المزة) وفي عام (1910) التحق مع سريته إلى اليمن لإخماد ثورة الإمام يحيى وبعد التفاهم مع الإمام يحيى انسحبت القوات العثمانية من اليمن وتوجهت إلى جبهة جديدة ساخنة في ليبيا وكان ذلك عام (1911) للمشاركة في الحرب الدائرة مع الجيوش الإيطالية الغازية ، وكان برفقة القائد عزيز علي المصري ، والقائم مقام علي خلقي الشرايري وحصل أن تنازلت الحكومة التركية عن ولايتي طرابلس وبني غازي إلى الجيوش الإيطالية بموجب معاهدة أوشي فانتقل المجاهد إلى هضبة (برقة) وقد كان لهذه المنطقة قيمة روحية وسياسية إذ أنها موطن السنوسية وزعيمها النشط الشيخ أحمد الشريف.
ويضيف المؤرخ قائلاً: في عام (1909) انتسب إلى الجمعية القحطانية ، وهي جمعية سرية أسسها المناضل سليم الجزائري ، وقد ضمت عدداً من الضباط العرب ، وقد عمل على تعزيز المفهوم القومي في نفوس وذاكرة الضباط والجنود العرب.
وأثناء وجوده في طرابلس كان من أكثر الضباط حماسة للقتال وكان يقول: جنود الطليان جبناء المهم في الأمر الصمود وتزويدنا بالإمدادات العسكرية.
تعرض لمحاولة الاغتيال بالسم وذلك عام (1913) وقد كتب الأديب الراحل يعقوب العودات عن محاولة الاغتيال في كتابة (القافلة المنسية) قائلاً: أعطوا للخادمة علبة صغيرة فيها (سم) لترشه على الطعام ولما عاد نجيب إلى منزله مع رفاقه وبدأوا بتنظيف السلاح تناول بعضاً من الطعام المسموم ، فأوشك على الموت ، فعرف نجيب أن في الأمر ما يبعث على الريبة ، ونالت الخادمة جزاءها إذ قتلها أحدهم.
ويتابع حديثة قائلاً: وفي عام (1913) اشترك في أهم وأقوى المعارك مع الغزاة في موقعة (محروقة) وكان يقودها من الجانب العربي المجاهد محمد بن عبد الله اليوسفي ومن الجانب الإيطالي الجزال (مياني) وقد استغرقت المعركة خمس ساعات اتسمت بالعنف وقتل عدد كبير من الضباط (الطليان) ويقول خليفة محمد التليسي في كتابة: (معجم معارك الجهاد في ليبيا): إنها معركة من أهم معارك الجهاد إذ تصدى المجاهدون لقوات مياني الإيطالي ، وكان مياني قد اصطدم مع المجاهدين في معركتين (الشب) و(اشكدة).
ويضيف قائلاً: خاص المجاهد نجيب البطاينة عدة معارك أهمها معركة (الشلظمية) و(الكردايسي) وقد جرح في المعركة الأولى وخاض المعركة الثالثة في زاوية (مسوس) ودخل نجيب المعركة الثالثة وهو جريح ولم يثنه ذلك عن واجب الجهاد وفي هذه المعركة استشهد البطل العربي وروى بدمائه الطاهرة الجبل الأخضر.
وقد عبر الشعب الليبي عن مقدار اعتزازهم بهذا المجاهد المقدام بأن أطلقوا اسم نجيب الحوراني (نجيب بن سعد العلي البطاينة) على العديد من الشوارع في ليبيا وعلى مناطق مختلفة.
وفي ذلك تحدث المؤرخ قائلاً: يضرب المثل ببطولته وتضحيته كما يضرب المثل بالحزن عليه ويقولون هناك كما ذكر الدكتور عارف البطاينة: أنت تبكين فلان وكأنه نجيب الحوراني ، وأضاف: بكاه الشعب الليبي ولم يحزن المجاهد أحمد السندسي كما حزن عليه وقال المجاهد شكيب أرسلان: لم يحزن أحمد الشريف السنوسي على أحد حزنه عليه الباهر شجاعته وشديد إخلاصه وكان السنوسي يكتب لي من الجبل الأخضر وافر الثناء عليه ، وقال اللواء علي خلقي الشرايري باستشهاد نجيب رفيق السلاح ورفيق المهمات الصعبة خسرت حركة النضال العربي أشجع الشجعان وفارس الفرسان وحرمنا من أفكاره واجتهاداته العسكرية وروحيته القتالية.
وقد تحدث الدكتور عارف البطاينة قائلاً: عندما كنت وزيراً للصحة عزمت على زيارة ليبيا وهناك تم استقبالي بحفاوة كبيرة وأمر الرئيس معمر القذافي بنقلي بطائرة خاصة لزيارة ضريح أخي الشهيد نجيب البطاينة وذلك تكريماً لذكراه الطيبة ، وهكذا فقد استحق المجاهد الشهيد نجيب بن سعد العلي البطاينة لقب أول شهيد عربي على التراب الليبي.
إن الكلام في (نجيب بن سعد العلي البطاينة) إذا طال يحلو ويعذب النفوس التي عرفته وما عرف فيه ، وعنه إلا الإخلاص العميق لقضية الإنسان العربي وقضايا المجتمع العربي بكافة أشكالها وأنواعها... إذا كان من الصعب الإحاطة في شخصية المجاهد نجيب بن سعد العلي البطاينة صفاته ومزاياه كلها فإننا لا نملك إلا أن نستذكر جملة من مزاياه التي جعلته نموذجاً وطنياً قومياً وإنساناً مؤثراً
انه الشهيد نجيب سعد باشا العلي البطاينه
ولد في قرية البارحة اربد في الشمال الأردني وسقط شهيداً في الجنوب الشرقي الليبي، فالبطولة لها أشكالها وأنواعها، ولها زمانها ومكانها، فرسم لوحة على جدار الزمن ليتحدث التاريخ عن البطولة والأبطال، وعن أحرار الأردن الذين سقوا بدمائهم الزكية شجرة الحرية في ليبيا واليمن، وفلسطين والعراق، وسورية، و الجزائر ...
نعم إن أردت أن تعرف شعباً من الشعوب فعليك أن تتعرف على رجاله، لأن هذه الرموز هي التي تخوض معركة الحياة بخيرها وشرها، وهي التي تصنع التاريخ للأمة، وهي التي أسهمت في إضاءة الدروب للأجيال الصاعدة والمتجددة في وطننا، وهي التي صاغت البيان التحريضي لنهضة الأمة، وهم الذين علمونا الوعي بثقافة المقاومة .
ونجيب البطاينة من هؤلاء الرجال الأبطال الذين أضاءوا أفق الرؤية، وكان لـه شرف بلورة الهوية القومية من أجل بناء وطن كانت رؤاه الوحدوية منطلقة في الدفاع عن العروبة في كل بقعة من بقاع الوطن العربي.
قد تختلف العوامل التي تصنع الرجال، إلا أنها تشترك في استحالة تحقيق هذا الرجل أو ذاك دون رصيد حقيقي من مواقف وأقوال وأفعال ومنجزات يسجلها لـه التاريخ ويتحدث عنها البعيد والقريب، وذاكرة أبناء الأردن من الرعيل الأول والثاني والثالث تحتفظ بالكثير من الأحداث وصناعة الفعل الثوري والجهادي.
تروي حكايا هذا المجاهد المعتز بعروبته وإسلامه.
قاد شهيدنا البطل نجيب البطاينة فصائل المقاومة الشعبية الليبية عندها لم يكن مباهاة لتعزيز الهيبة ولا ترفاً لصيد الرجال، وإنما كان دفاعاً عن قدسية الأرض وكرامة الإنسان العربي، فقد صاغ خطابه الجهادي وفق معطيات مرحلته بكل تحولاتها العميقة وتحدياتها الخطرة، ومستجداتها الصعبة بتفكير ثاقب، ووعي ناضج متمسكاً بفكر المقاومة الشعبية مع القوى الوطنية الليبية ممثلاً بالمجاهدين: أحمد الشريف ومحمد المهدي، ومحمد بن عبد الله، وغيرهم من أبطال المقاومة الليبية الذين كان وإياهم يعبرون عن مجمل الشعور الجمعي لرسالة النضال المكونة في ذاكرتهم وهم يقارعون الغزاة وأعداء الوطن والأمة.
معركتي الشلظيمية والكردايسي
عندما تصبح المقاومة ثقافة للشعب الباحث عن الحرية والاستقلال، ينتصر التحدي بإرادة الصمود، ويهزم العدو مهما كانت قوته العسكرية، ويقهر جيشه القادم من وراء البحار لاستعمار الشعوب ونهب ثرواتها وإذلالها، وعندما يصبح قرار المقاومة بأيد أمينة ومؤمنة، يكون الانتصار حتمياً مهما طال الزمن، ومهما كثرت المعارك ومواقع التحرير..
هكذا كان شعبنا العربي الليبي البطل في صراعه مع الاستعمار الإيطالي ولمدة عشرين عاماً (1911- 1931م)، وهكذا كان (نجيب) سيفاً من سيوف المقاومة الليبية، وما سيوف (محروقة) إلا امتداد طبيعي لسيوف الشلظيمية والكردايسي، ومسوس، لأن مسافات الجغرافيا قصيرة بينها ومتقاربة على مسرح الأرض والزمن، مؤكداً على هذه الرموز المترابطة التي تلخص وتوجز أهداف المقاومة السامية وهي تنتقل من حال إلى حال وكلها كتبت بالدماء، وبالبذل السخي والفداء لطرح الدخيل الوافد من روما وبروجيا وغيرهما من مستعمرات الاستعمار الإيطالي.
لم تقف القوى الشعبية الليبية على ناصية التاريخ متفرجة، بل كانت منذ تأسيس مقاومتها تمخر عبابه فاعلة متفاعلة، خاضت غماره ممتطية صهوة الزمن دون رهان، وخيول السبق للشهادة تدق حوافرها الوعر، وصهيلها يسبق الحداء، وكان لها على سطح الأرض الليبية - من البحر إلى الجبل الأخضر - محطات نور وإشعاع
وكان (نجيب) على موعد مع النصر قبل الاستشهاد في معركة الشلظيمية التي وقعت يوم 28 شباط 1914م، واستمرت هذه المعركة أكثر من عشر ساعات، كان (نجيب) نجيبها وقائدها وفارسها وجريحها، فتكبد العدو الإيطالي أكثر من ثلاثمائة قتيل
يقول المجاهد شكيب أرسلان
عن هذه المعركة: كانت معركة الشلظيمية فتحاً عظيماً للمقاومة الليبية، وكان الثوار أطول هاماً من النخيل الليبي وأقوى، وقدّم الشعب الليبي كوكبة من الشهداء ارتوت الأرض بدمائهم الزكية، لتنبت الحرية والكرامة، وكان عدد شهداء هذه المعركة بحدود 200 شهيدً، كانوا سداً منيعاً لمنع أو لتأخير القائد الإيطالي (مياني) من التقدم إلى إقليم (فزان)، وجرح نجيب الحوراني في هذه المعركة، ولم يسترح لجرحه، بل ضمد الجراح، ليجرح مرة ثانية في معركة الكردايسي .
بدأت معركة الكردايسي يوم 1 آذار 1914، أي في اليوم التالي لمعركة الشلظيمية، ولم تكن أقل فعلاً من المعارك السابقة، بل كانت - كما يقول شكيب - أشد وجعاً على الجيش الإيطالي، واستعمل فيها نجيب أسلوب القتال العسكري النظامي (الكر والفر) ثم المباغتة في الجوانب، وهذا الأسلوب مكّن المقاومة من الوصول إلى الأطراف حيث قادة الفصائل من الضباط الطليان، وقتل أكثر من سبعة ضباط من الرتب المتقدمة، وتمكنت المقاومة من تدمير الأسلحة والذخيرة وحرق سيارات التموين والصحة ..
وفي هذه المعركة جرح نجيب للمرة الثانية في كتفه وساقه، وأخرج الرصاصة التي استقرت في ساقه اليسرى وبدون مساعدة من أحد رفاقه، واستمر في القتال ولم يقبل الرجوع إلى الخلف، إذ حاول شقيق زوجته (سنوسي) أن ينقله من أرض المعركة إلا أنه رفض رفضاً مطلقاً على الرغم من نزيف في ساقه اليسرى، وظل يقاتل حتى توقفت المعارك بانسحاب القوات الإيطالية فانتقل إلى منطقة (مسوس) حيث ينظم المجاهد أحمد الشريف صفوف المجاهدين، ويستعد لمعركة مقبلة مع الجيش الإيطالي الزاحف باتجاه المنطقة
معركة مسوس و استشهاده
مسوس: قرية تقع جنوب شرق (بنغازي) أسس فيها السنوسيون زاوية، والزوايا هي مركز إصلاح وتعليم أسسها الصوفيون في ليبيا وغيرها من دول الشمال الإفريقي، وهي شبيهة بالزوايا المغاربية، مثل: الزاوية الدلالية لمحمد حجي، والزاوية الوزانية لمحمد برادي، والزاوية الشرقاوية لأحمد بوكاري، وغيرها من الزوايا (الصوفية) السنية. وكانت الزوايا تقوم بمهمات علمية واجتماعية، وفي عهد الاحتلال تركز عملها على الجهاد ونشر ثقافة المقاومة . وفي (مسوس) كانت زاوية ولذلك فإن المعركة وقعت قرب (زاوية مسوس) التي هدمها الطليان.
وكان المجاهد أحمد الشريف قد اتخذ من (مسوس) هذه مقراً للقيادة في ظروف أذاقوا فيها الطليان صنوفاً من العذاب بعد معركة (سيدي كريك القرباع) التي وقعت يوم 16 أيار 1913، إذ تقدم الجنرال (مامبراتي) نحوها فخسر 72 قتيلاً من الجنود، و(13) ضابطاً بالإضافة إلى أسر 400 جندي، وأخذ منه المجاهدون (999) بندقية غير الأسلحة المختلفة .
لم تشر الوثائق الليبية إلى أسماء قادة هذه المعركة غير أحمد الشريف، إلا أن المجاهد شكيب أرسلان أشار إلى أن (نجيب الحوراني) اشترك في جميع المعارك إلى جانب الشريف باستثناء معركة (الأبيار) التي وقعت في اليوم التالي لاستشهاده.
إذن.. جاءت معركة (القرباع) لتؤكد على قوة المقاومة الليبية، وقد شعرت القيادة العسكرية الإيطالية بقوة المقاومة وتمكنها من قتل وأسر المئات من جنودها، وفشلت مرة ثانية في معركة الشلظيمية، وثالثة في معركة الكردايسي، فقررت الانتقام بقوة ولحسم أمرها مع المقاومة في معركة (مسوس) حيث انتقل إليها أحمد الشريف ونجيب البطاينة، والمهدي والسنوسي، وأسسوا فيها القيادة العامة لجيش المقاومة الشعبية
وفي صباح يوم 3 آذار 1914، بدأت المعركة الحامية وتمكنت القوات الإيطالية من تدمير (زاوية مسوس)، وأبدت المقاومة جهاداً بطولياً كبدت فيه الجيش الإيطالي مئات القتلى، وبالمقابل خسرت المقاومة أيضاً مئات الشهداء فاستشهد (المهدي) شقيق زوجة نجيب، وتلاه شقيقه (السنوسي)، وجرح نجيب، وكانت إصابته في الصدر وفي الفخذ قاتلة، فنقل من أرض المعركة إلى منزله لعلاجه، وبقي حياً إلى اليوم التالي (4 آذار 1914) ليفارق الحياة، ودفن في قرية مسوس بعيداً عن وطنه وأهله وزوجته، بعد معارك كان نجمها وفارسها وبطلها، فجاءت شهادته على الأرض الليبية تأكيداً على قومية وعروبة المعركة ضد الاستعمار في مغرب الوطن ومشرقه.
الشهيد نجيب في ذاكرة الشعب الليبي
يقول المؤرخ العربي الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ
في كتابه (بلادنا فلسطين) الجزء الثالث، صفحة 461: نجيب السعد ابن المرحوم سعد باشا العلي وجيه عشيرة البطاينة في قرية البارحة، اشترك في حروب طرابلس الغرب عام 1912، ضد الطليان، وكثيراً ما خاض المعارك مع أحمد الشريف. جرح مرتين واستشهد في الثالثة، وحزن عليه الشعب الليبي حزناً شديداً، وترك في بلاد المغرب العربي ذكراً خالداً .
وقال يعقوب العودات (البدوي الملثم)
في كتابه (القافلة المنسية) صفحة (96- 99) نقلاً عن مذكرات شكيب أرسلان، ما يلي: لم يحزن السيد احمد الشريف على أحد حزنه على نجيب الحوراني لباهر شجاعته وإخلاصه .
وعندما انتقل أحمد الشريف إلى الجبل الأخضر، لم يقطع شكيب بالرسائل، وفي كل رسالة كان يترحم على رفيق سلاحه ودربه الجهادي الشهيد نجيب، يقول شكيب عن هذه الرسائل: وكان السيد أحمد الشريف يكتب لي من الجبل الأخضر، وهو وافر الثناء عليه وهو اليوم دائم الترحيم عليه، والشهيد المذكور هو نجيب بك بن الشيخ سعد العلي من مشايخ بلاد عجلون ترك في بلاد الغرب (المغرب العربي، ليبيا، ذكراً خالداً).. .
وظل اسم (نجيب الحوراني) من ألمع الأسماء بين أولئك القادمين من بلاد الشام أو العراق، يقول الدكتور سعد أبو دية: ... وحدثني الدكتور عارف البطاينة أن هناك ضريح شخص من اليمن إلى جانب ضريح نجيب، وقرأت في كتاب الاستاذ الفرنسي (جورج ريمون) الذي ألقى الضوء على الزعماء والمناضلين العرب والأتراك ونشير هنا إلى أن قيادة الثورة الليبية وجهت دعوة رسمية لمعالي الدكتور عارف البطاينة شقيق الشهيد نجيب، وقام بزيارة (مسوس)، وقابل مختار القرية وحدثه عن قصة استشهاد أخيه والأثر البالغ الذي تركه في نفوس الناس، إذ أصبحوا يضربون المثل بالحزن عليه ويقولون هناك: أنت تبكين على فلان وكأنه نجيب .
وكرّمت الحكومة الليبية الشهيد نجيب بتسمية شوارع رئيسة في طرابلس وفي بنغازي باسمه، وتشير إلى الاسم (نجيب الحوراني).
الثار لنجيب بك
بعد استشهاد نجيب، خاض المجاهدون معركة في منطقة (الأبيار) وأطلق عليها اسم معركة الثأر للشهيد نجيب الحوراني، وبعد هذه المعركة توقفت المعارك لمدة طويلة، أما قائد الثورة والمقاومة الليبية أحمد الشريف، فقد ذهب إلى استانبول واستقر فيها مدة طويلة، وأخيراً نزح عن تركيا واستقر في الحجاز، وفي سنة 1933م توفي في المدينة المنورة.
بعد خمسين عاماً فايزة السنوسي تلتقي بأهلها
شاءت ظروف الجهاد المقدس أن يرحل نجيب إلى ليبيا لمواصلة المهمة النضالية ويترك زوجته السيدة فايزة عبد الله السنوسي في البارحة، ويستشهد وتبقى هي في البارحة ولتتزوج في وقت لاحق من الشيخ عقلة نصيرات وتنجب أولاداً ومنهم شايش وفيصل.
كان شايش عقلة نصيرات ضابطاً في الجيش العربي الأردني، وخلال وجوده في معسكر الزرقاء يتلقى هاتفاً غريباً من القاهرة، وكان المتحدث معه الشريف أحمد الهوني وزير المواصلات في حكومة العهد الملكي عام 1965م، ويكون الشريف الهوني ابن شقيقة السيدة فايزة السنوسي، وبدأ التعارف على الهاتف، وبعد ذلك يسافر الضابط شايش ووالدته إلى ليبيا وتلتقي بأهلها بعد غياب دام أكثر من خمسين عاماً، ويساهم المرحوم الشريف ناصر بن جميل بتسهيل مهمة سفر شايش ووالدته بمنحه إجازة طويلة ليتعرف على أخواله، ولتعيد (فايزة) ذكريات الماضي، وتزور ضريح زوجها الأول في مسوس.
أما أصل الحكاية فيرويها شايش إلى الدكتور سعد أبو دية، وكانت على الوجه التالي:
كان هناك اجتماع في الجامعة العربية للقيادة العربية الموحدة، وفي هذا الاجتماع التقى الشريف أحمد الهوني مع الضباط الأردنيين: فهد جرادات ويوسف كعوش، وعلي القضاة، وبواسطة الضابط فهد جرادات تم الاتصال فوراً مع شايش في معسكر الزرقاء، وشرح له ظروف والدته ورغبتها بالتعرف على أهلها، فتم تنظيم الزيارة، وقابلوا الملك ادريس السنوسي، ثم قاموا بزيارة (مسوس) وتعرفوا على ظروف استشهاد نجيب، وكانت الزيارة عام 1965م، وبقي (فيصل) مدة طويلة في ليبيا.
وفي المقابل تمت دعوة الشريف أحمد الهوني إلى الأردن، ومكث فترة طاف فيها الضفتين، وكان بضيافة أبناء الشيخ عقلة نصيرات، وأبناء الشيخ سعد العلي البطاينة، وفي 24 تشرين الأول سنة 1975 انتقلت السيدة فايزة السنوسي إلى رحاب الرفيق الأعلى بعد أن قضت في الأردن ستين عاماً منذ قدومها الأول عام 1914م مع زوجها الأول نجيب.
وشاءت الأقدار أن تموت الليبية في الأردن وتدفن في ربوعها، ويموت الأردني في ليبيا ويدفن في ربوعها، وبالقرب من جبلها الأخضر.. وبهذا يكون نجيب البطاينة أول الشهداء العرب على الأرض الليبية
فجاءت شهادة الشهيد القائد نجيب الحوراني
(((((نجيب بيك بن سعد العلي البطاينة)على الأرض الليبية تأكيداً على العقيدة الراسخة وأن الباطل أبدا لا ولم ولن ينتصر
ولن ينال منا الإ الأذىمن قصص الأردنيين الذين دافعوا عن قضايا الأمة شرقا وغربا ولبوا
النداء , ونفروا خفافاً وثقالاً في سبيل الله , قصة نجيب بيك بن
سعد العلي البطاينة , رفيق الدرب للمجاهد الكبير عمر المختار ورفاقه المجاهدين :: أحمد الشريف :: ومحمد المهدي :: ومحمد بن عبد الله :: وغيرهم من أبطال المقاومة الليبية , ويعبّرون عن ضمير هذه الأمة وعقيدتها الراسخة رسوخ الجبال , والمزروعة في ذاكرتهم ويقارعون الغزاة وأعداء الوطن والأمة والدين
حياته العسكرية في ليبيا
من معارك اليمن إلى معارك ليبيا، هذا هو قدر الضباط العرب أن يقاتلوا نيابة عن الضباط الأتراك، ولكن الحرب في ليبيا تختلف عن الحرب في اليمن، فالمعركة هذه المرة ضد الغزو الإيطالي على قطر عربي شقيق، فأحرز الضباط أمجاداً رائعة بقيادتهم المقاومة العربية ضد الغزو الإيطالي، ودائماً في طليعة الجهاد الأبطال الثلاثة: عزيز المصري، وعلي خلقي، ونجيب الحوراني، أما غيرهم من الضباط الأتراك فكانت عيونهم على استانبول حيث توزيع المناصب على الانقلابيين، فأخذتهم السياسة وأبعدتهم عن الواجب العسكري، فاحتلت الأراضي، وأنيطت المهمة للضباط والجنود العرب .
كان (نجيب) يعتز بشرف القتال على الأرض الليبية، ليس كضابط في الجيش التركي بل كضابط عربي يدافع عن الأرض العربية وكرامة الإنسان العربي، وعزز في نفوس وذاكرة الجنود العرب هذا الهدف القومي، حيث بدأ الضباط الأتراك يدركون معاني استبسال العرب في القتال ضد الجيوش