أهم ما يجب أن يُقتدى مما كان عناوين لـ»الثورة المصرية» هو أن كل القوى وكل الفئات والأحزاب قد وضعت أسم مصر فوق كل شيء فالهتافات كانت مصر والشعارات كانت لمصر والأغاني كانت لمصر والعلَمُ الوحيد الذي رُفع ولا يزال يرفع هو العلم المصري وحقيقة هو أن هذه هي طبيعة الأشقاء المصريين فالولاء لبلدهم فوق كل ولاء والحداء لبلدهم فوق كل حداء :
مصـر يمَّا يا بـهية ... يمَّ طرحـة وجلابيـة
الزمن شـاب وأنت شبـة ... هُوَّ رايح و أنت جـيّة
لقد غابت كل الخلافات وتراجعت كل المواقف وبقي موقف واحد هو مصر وحب مصر والولاء لمصر والمؤكد أن الذين يحاولون تقليد ثورة ميدان التحرير عندنا وعند غيرنا قد لاحظوا كما لاحظ العالم كله أن الثائرين هناك توحدوا حول كلمة مصر وأنهم التفوا حول العلم المصري الذي لم يرفع علم غيره وأن الغياب الكامل شمل حتى شعار جمال عبد الناصر :»إن ما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ إلاّ بالقوة» وشمل أيضاً شعار الإخوان المسلمين :»الإسلام هو الحل» وكذلك فإنه لم يُسمع ولا هتافٌ واحدٌ يطالب بالوحدة العربية ويدعو لتحرير فلسطين وفك الحصار عن غزة وكل هذا لا يمكن اعتباره تخلياً عن هذه الشعارات وتراجعاً عن هذه المطالب بل يؤكد على أن كلمة مصر تعني كل المواقف وكل الثوابت القومية وهذا ما يجب أن نقتدي به هنا في الأردن .
في هذه المرة أثبت الإخوان المسلمون في مصر أنهم حركة سياسية حية ولديها استعداد لأن تتكيف مع كل متطلبات المرحلة المستجدة حيث التغيير الجدي المطلوب يجب أن يشمل الأحزاب قبل أن يشمل الأنظمة والدول والحكومات ولهذا فإنهم بادروا إلى التأكيد على ثلاث قضايا رئيسية هامة هي الأولى :أن الاتفاقات المبرمة مع إسرائيل (كامب ديفيد) هي شأن الشعب المصري كله وليس شأن الأخوان المسلمين وحدهم والثانية :أن الدولة المصرية هي دولة مدنية وليس دولة دينية أما القضية الثالثة :فهي مبادرتهم العاجلة إلى التأكيد والتشديد على أنهم يرفضون الصيغة الإيرانية في مصر.
وحقيقة أن مثل هذه المواقف إن هي لم تغب غياباً كاملاً عندنا خلال المسيرات والمظاهرات الأسبوعية واليومية فإنها لم تكن واضحة ولا بارزة وأن اسم الأردن بقي يتردد بطريقة خجولة وأن التركيز استمر على ضرورة إلغاء اتفاقية وادي عربة وقطع العلاقات مع إسرائيل وإطلاق سراح الدقامسة ووقف التطبيع وكل هذا بالإضافة إلى أن الطابع الحزبي والفئوي كان هو الأساس بالنسبة للشعارات والأعلام والهتافات.
لم يُسمع في ميدان التحرير ولا هتاف واحد يطالب بإلغاء اتفاقيات كامب ديفيد كما أنه لم يسمع ولا هتاف واحد لا ضد إسرائيل ولا ضد أميركا وهذا يجب ألاّ يفهم على أنه طعن في وطنية شبان الثورة المصرية وأحزابها وتنظيماتها بل أنه دلالة ومؤشر على نضج هذه الثورة وعلى واقعية الذين يقودونها وعلى أنهم من خلال رفع اسم مصر وحده عالياً أرادوا استقطاب الشعب المصري كله إلى جانبهم فالشعارات الفئوية والمواقف المختلفة والمتعارضة والمتناقضة هي دعوة للفرز والاستقطاب وذلك في حين أنه في مثل هذه التحولات التاريخية يجب الابتعاد عن الفئوية والفرز والاستقطاب ويجب تجنب التمسك «الدوغمائي» بالمواقف السابقة الجامدة فـ»الإسلام يجُبُّ ما قبله» والإصلاح الجذري يتطلب التخلي عن مواقف قديمة كثيرة ... والأردن يجب أن يكون فوق الجميع ويجب أن يكون الهتاف له وحده.
علينا ألاّ نشغل الأردنيين بالأمور الثانوية وعلينا ألاّ نمتص جهودهم ونفرَّغ حماسهم بعيداً عن القضايا الرئيسية فالمهم في هذه المرحلة هو التقاط اللحظة التاريخية وهو التأسيس لانطلاقة جديدة من أهم شروط نجاحها البناء على الإنجازات السابقة أما القفز في الهواء والتَّلهي بالقضايا الصغيرة وبالمناورات الحزبية والإنحيازات الضيقة فإنه سيكون على حساب هذا الوطن وأنه سيكون حجر عثرة في طريق هذه المسيرة.