اتركونا قليلاً كي نعب أنفاسنا ونطلق زفيرنا المثقل بالهموم ، كي نقوى على اعطاء همومنا اجازة قسرية ، ونمتلك تلك الاغفاءة الصبيانية التي ظلت تميز نومنا الطفولي الجميل ، ونحلم تلك الاحلام الحمقاء ، تلك الاحلام التي كانت تجعل الحياة المقبلة تبدو كرحلة مدرسية. وكزهرة بألوانها كقوس قزح.
اتركونا قليلاً وامنحونا مساحة كي نتفقد تضاريس الوطن ، ونحدق بسهوله وبجباله وبتلك الوهاد المتروكة في البوادي ، دعونا نحدق بالاشجار كما يليق باخضرارها النابت وهو يشق الفراغ السماوي ببهجة نمو الاغصان والفروع واخضرار الاوراق.
دعونا نمسك بالحقول من ياقتها ، ونجرجرها خلفنا ، كي نعب ذاك الاوكسجين المقدس ، ونملأ الرئة التي أعياها التبغ والاماكن المغلقة وذاك الفحيح الاسود الذي تطلقه عوادم السيارات ، دعونا نقطف الثمار البخيلة التي خلفها الاحتباس الحراري ، ونطلق زغرودة الهواء.
اتركونا قليلاً ودعونا كأطفال حمقى أعياهم اللعب ، والعرق الطازج للمسام ، دعونا نتخلى قليلاً عن وقارنا المُقترح هذا الذي أسلمنا كمحاربين خاسرين للشيب وللجلطات وارتفاع الضغط وهذا السكري الذي احتل البيوت وبدأ بقضم أطرافنا. دعونا نتجنب الخوض في الامراض والهموم والتباري في الذهاب الى غرف العناية المركزة.
اتركونا قليلاً وامنحونا الاعفاء الجمركي من الاستماع الى نشرات الاخبار ، والبيانات والاجتماع العاجل واستطالة الخبر العاجل وهو يزف خبر موتانا. ومتابعة محادثات السلام وفكاهات الرباعية ، وكهنة الصحافة في البيت الأبيض. وهذا الشبق الاخباري المقيم في الفضائيات. اريحونا من الخطب العصماء والحناجر المقثائية التي نهبت ارواحنا بضرورة ترديد الهتاف خلفها.
اتركونا قليلاً كي نتفحص الكدمات التي أكلت أجسادنا ، من هول تلك الرحلة التي كنّا خلالها نحمل على ظهور أرواحنا تاريخاً فاقد الصلاحية ، ولم يعد فاعلاً في حياتنا اليومية ، انقذونا قليلاً من النشيد الذظلّ يتغنى بالاوطان حتى التهمت الواحد تلو الآخر.
اتركونا قليلاً كي نسترد براءتنا الاولى ، وحماقاتنا التي عشنا نصف عمرنا ونحن نفرح بابقائها في قلوبنا. أعيدو لنا طعم البيت وحوش الدار وتلك الدالية اليتيمة ، أعيدوا لنا رائحة الأب المواظب على الصلوات الخمس ، والأم التي كان يكللنا صوتها المبحوح بالدعاءات ، أعيدوا لنا طمأنينة الجدات.
اتركونا قليلاً وامنحونا الفرصة كي نتذوق الحياة من جديد وكأننا نتذوقها لأول مرّة.
اتركونا قليلاً.
khaleilq@yahoo.com