من لم يكن معنا في يوم 'الغضب الأعظم' فقد فاته نصف عمره، فقد تجلت عظمة المصريين في هذا اليوم، وأثبت الشعب المصري أنه قادر على أن يواجه بصدر أعزل، كل جنود فرعون وهامان، وهما من اعتبروها معركة حياة أو موت، لأن المتظاهرين كانوا يطالبون برحيل حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي.
إقالة الأخير باتت مطلباً وطنياً في السنة الأخيرة، وعقب تفجيرات كنيسة القديسين خرجت المظاهرات تطالب بشلحه، وهو الذي تفرغ لأمرين، الاول هو محاصرة المظاهرات، حتى اذا وقف خمسة أفراد على سلالم نقابة الصحافيين، يحشد قوات أمن تكفي لتحرير العراق، والأمر الثاني هو التفرغ لمطاردتي من جريدة إلى جريدة، وفي اللحظة التي كانت فيها مصر مشغولة بالبحث عن مرتكبي التفجيرات، كان هو ينتفض غضباً لأنه وقع الاختيار علي لكي أكون رئيساً لتحرير احدى الصحف، لا ينسى أنني هاجمته قبل عشر سنوات، وكل من اقترب منه ولو بشطر كلمة، ناله الجزاء المناسب.
كانت المظاهرات في أكثر من محافظة، في السويس، والمنيا، والإسكندرية، وكفر الشيخ، وأسيوط، وفي القاهرة كانت في أكثر من موقع، وكانت نقطة انطلاقي من أمام دار القضاء العالي، إذ كانت هناك مظاهرات تجوب شوارع العاصمة، ليقوم بها بالأساس حزب 'الوفد' وبعض الحركات الاحتجاجية الأخرى، كان يتزعمها زميلنا محمد شردي، وتضم أكثر من ألفي متظاهر، سرت معهم على الأقدام، إلى ميدان العتبة، والقلعة، وعابدين، وباب اللوق، وكانت الجماهير في الشوارع وعبر النوافذ تقوم بتحية المسيرة، في مشهد بديع.
محلات كانت تعلق لافتات تهنئ حبيب العادلي بعيد الشرطة، فيقوم المتظاهرون بنزعها وتمزيقها، وسط تصفيق من العاملين في المحلات، لافتة واحدة كانت مرتفعة، لكن هناك من أصروا على نزعها، ولم يتمكنوا.. شفا الشباب غليلي، وهو من يريد بحصاره أن اذهب إليه حاملاً كفني، وجاءت الرسالة انك وحدك القادر على إنهاء الأزمة، وقلت ما يقوله البسطاء من أهلي في صعيد مصر: 'أخرتها موتة'، واذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جباناً، وليس في الأمر شجاعة مني بقدر ما فيه من منطق.
اقتربنا من ميدان التحرير، الذي كان مزدحماً بآلاف المتظاهرين، وسعت الشرطة للحيلولة دون التحامنا بهم، ضربوا علينا أطنانا من القنابل المسيلة للدموع بهدف حملنا على العودة، سقط ضابط شرطة أمامي من جراء الاختناق، وشعرت بأن روحي بلغت التراقي، وقاومت، وكان الإصرار على الوصول إلى الميدان، وأمام التحدي وصلنا، وهناك شاهدت مصر كلها.. شباب لا يعرفنا ولا نعرفه، انه الفجر الجديد، طفت على سطح ذاكرتي الآية الكريمة: 'إن يشأ يذهبكم ويأتي بخلق جديد'.. يا الهي هذا هو الخلق الجديد.. وجاء أبو العلا ماضي، الذي احتفل في هذا الشهر بمرور خمسة عشر عاماً على 'محاولة' تأسيس حزب 'الوسط'، وفشل لأن 'عقدة النكاح' بيد الحزب الحاكم، وجاء ايمن نور، وجميلة إسماعيل، واحمد بهاء الدين شعبان، ومحمد الأشقر، ويحيى القزاز.. كانت هذه مصر التي أعرفها، لكن عدد الحاضرين من مصر التي لا اعرفها تجاوز العشرين ألفا.
الحديث المشترك كان حول مؤامرة الفضائيات على الشعب المصري، لم أشاهد أداء الفضائيات، لكن ما سمعته أن هناك تجاهلا تاما لانتفاضة الشعب المصري، إذ انصب الاهتمام على ما يجري في لبنان، ولم أكن اعلم هل هذا راجع إلى التواطؤ بين أجهزة الأمن في مصر ومكاتب الفضائيات في القاهرة، أم ان التنسيق تم على أعلى مستوى، ومع ملاك هذه الفضائيات؟
على خط النار
'الجزيرة' التي كانت تقف على خط النار في انتفاضة تونس، بدت غير معنية بانتفاضة الشعب المصري، وفي التاسعة مساء دخلت احد المقاهي لاحتسي فنجان قهوة، تذكرت أن طعاما لم يدخل معدتي في هذا اليوم، كان تلفزيون المقهى مضبوطاً على قناة 'الجزيرة'، واذا بالانتفاضة هي خبر على استحياء، قالت المذيعة، التي لم أكن مهتماً باسمها إن المتظاهرين قالوا انهم لن يتركوا ميدان التحرير حتى تتحقق مطالبهم.. وما هي مطالبهم ثكلتك أمك؟.. لا أحد يعرف.
في نشرات أخرى، ومحطات أخرى، قيل ان المظاهرة بسبب البطالة، وتطالب بحد أدنى للأجور، وبتغيير الحكومة.. الفضائيات تكذب، وتوالس، ومكاتبها في مصر في ظل الدولة البوليسية الحاكمة يتم اعتمادها بقرار أمني، ونحن نريد دولة القانون.
لكن هل كانت الموالسة من المكاتب فقط؟.. علمت أن مكتب فضائية تلقى تحذيراً من بسلامته وزير الإعلام، بأن أي تغطية للأحداث بما يسيء للنظام، سوف يترتب عليها إغلاق المكتب.. ليتهم يغلقون كل المكاتب، ما قيمتها.
مراسل الـ 'بي بي سي' غطى الأحداث، وفي اليوم التالي اكتشف أن الشركة الوسيطة، لم ترسل المواد إلى لندن، ولم يكن بامكانه أن يتأكد من هذا في حينه، فقد كانت الهواتف الجوالة لا تعمل في ميدان التحرير، وظننا ان الشركات الثلاث قامت بمجاملة الحكومة بقطع الخدمة، لكن بعد ذلك علمت أن سيارة كانت تقف في شارع طلعت حرب، ومكتوب عليها إدارة الإعلام أو شيء من هذا القبيل وتقوم بالتشويش.
على نشرة الساعة التاسعة بقناة 'الجزيرة' أطلت علينا الحيزبون 'طنط' هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، معلنة انحيازها للنظام، وقالت إن الحكومة المصرية مستمرة، ولا نعلم هل هذه أمنية أم قرار؟
وفي اليوم التالي 'تمطعت' وقالت إن النظام المصري يهمها أمره، لاحظ أن أهل الحكم وإعلامهم يعلنون دائماً أن المعارضة تستقوي بالخارج، وتعمل لخدمته ضد النظام الوطني الجسور في مصر.. لقد علم كل أناس مشربهم.
أحد الجالسين البسطاء على المقهى علق على المذكورة: 'طُز في حضرتك'، وأحدهم كان أكثر دقة فذهب إلى ما هو أبعد من 'الطز'.
لا بأس فلتنحز لهم الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ثبت بالتجارب إن البيت الأبيض لا ينفع في اليوم الأسود، فكل أنظمة الاستبداد التي صنعوها على أعينهم، ومن حكم الشاه إلى حكم برويز مشرف، تبخرت في الهواء عندما حضرت الشعوب.
ربما استمعت كلينتون إلى نشرة سابقة للجزيرة، فظنت ان المتظاهرين لهم مطالب لدى السلطة، 'حبة إصلاحات، على حبة حرية، على حبة وظائف'. وهذا ما يظنه من استمع لهذه الفضائيات، في يوم الانتفاضة.
ابن أبيه
الفضائيات لم تنقل الشعارات القوية في المظاهرة، وكان الشعار الجامع هو 'الشعب يريد إسقاط النظام'، لا تغيير حكومة، ولا إقالة احمد نظيف، ولا مقاومة الرشوة والمحسوبية والفساد، فقد انتهى زمن المطالبة من هذا النظام، وقد طالبنا كثيراً وكان الرد بماء كالمهل يشوي الوجوه.
هذا شعار مستوحي من انتفاضة الشعب التونسي، وللمصريين تراث طويل مع الشعارات الوطنية، أبدعها مناضلون مثل كمال أبو عيطة، وكمال خليل، ولا تزال البطن الوطنية ولادة.
لكن استدعاء هذا الشعار التونسي له دلالته من ناحية، ولأن هذا الخلق الجديد ليس مطلعاً على هذا التراث من ناحية أخرى.
تامر ابن أبيه، كان معه مذيع آخر في برنامج 'مصر النهارده' على تلفزيون الريادة الإعلامية، وكانا في حالة تهافت عذري، وهما يقولان إن هذه الانتفاضة من الشباب، ولا علاقة للقوى السياسية بها، بعد ذلك وفي برنامج 'حديث المدينة' أطل وزير الداخلية، حسبما علمت، فلم أشاهد البرنامج، ليقول بأن الإخوان وراء الانتفاضة.
منح الوزير جماعة الإخوان عددا من الأوسمة تفوق في قيمتها (قلادة النيل) فالإخوان شاركوا بشكل رمزي، إذ حضر بعض رموزهم فقط، لكن الوزير وإعلامه بعد ذلك أنزلهم منزلة عظيمة. رسالة الوزير ليست موجهة للداخل، فلن ينقلب المصريون على المظاهرات، لان الإخوان هم الذين يقفون خلفها، ولن يضرب متظاهر على صدره بكلتا يديه عندما يسمع هذا الكلام ويقول :'يا لهوي'، لكنها رسالة إلى الخارج، وإلى سكان البيت الأبيض على وجه التحديد، بأن النظام المصري يواجه حرباً ضد الإسلاميين، فاته أنها استعانة منهوك بمنهوك، فالأمريكان بحاجة إلى من (يأخذ بأيديهم) وهو ينتقلون من هزيمة إلى هزيمة في العراق وأفغانستان، ولو كانوا يملكون نفعاً لأحد لما مسهم الضُر، ولما أصبحوا مسخرة بين الأمم.
ظل تامر ابن أبيه يغني ويرد عليه زميله إلى أن وصلوا إلى 'بيت القصيد' فالشرطة المصرية صاحبة القلب الرحيم تحمي المظاهرات، وبعد ساعات من هذا الكلام جرى سحل المتظاهرين في الشوارع وضربهم بالرصاص الحي في القاهرة، أما في السويس فقد بدأ السحل مبكراً.
الوزير المرتبك
أداء التلفزيون المصري غلب عليه الارتباك، الذي كان عنوانه صورة بثتها 'بوابة الوفد' لوزير الإعلام وهو ينظر من نافذة مكتبه مرتجفاً وهو يشاهد الحشود أمام مبنى التلفزيون.
اليوم الأول للانتفاضة كان يوم فرز حقيقي، وإذا كان أداء حزب 'الوفد' على مستوى المسؤولية الوطنية، فان موقع 'بوابة الوفد' كان هو الأول من حيث التغطية الجادة، وعندما تلقي الحرب أوزارها سيقولون انهم ضبطوا لدى السيد البدوي شحاتة رئيس الحزب حقنا منتهية الصلاحية، على أساس انه يملك مصنع أدوية.
لم يشارك سوى 'الوفد' من الأحزاب الرسمية، وعندما فاجأت الانتفاضة الجميع بهذا الحشد التاريخي، ظهر رفعت السعيد رئيس حزب التجمع والعضو المعين بقرار رئاسي في مجلس الشورى على قناة 'اون تي في'، وقال ان التجمع شارك في المظاهرات، وان رائحته كانت في الشعارات التي يرددها المتظاهرون. لا أظن انه يقصد شعار 'الشعب يريد إسقاط النظام'.
تامر وصحبه اتهموا 'الجزيرة' بتضخيم الأحداث، مع أنها تعاملت معها على أنها خبر عادي، إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبعد التدخل الأمني بعنف لتفريق المتظاهرين.. فهل كان ما قيل هو لـ (رفع العتب) عن مكتب القاهرة؟.. يجوز.
عموماً لقد تغيرت تغطية 'الجزيرة' في اليوم التالي، ومعذرة لاهتمامنا بالجانب الفضائي على حساب مجرى الأحداث، فهذه زاوية متخصصة في النقد التلفزيوني.. وقد يشفي عمنا محمد عبد الحكم دياب غليلكم، كما شفى المتظاهرون غليلي في وزير يبدو لي وكأنه قد حصل على بدل تفرغ من الحكومة لمواجهة كابت اعزل.