التمويل الدولي حلقة تربط أركان الاقتصاد العالمي , كما أنه يساهم في طبيعة ديناميكيته .هذا يكون في حال التوازن الكلي بين السياسات المالية والنقدية والسياسات الاقتصادية . لكن التمويل الدولي هو أيضا أضعف حلقة في الاقتصاد العالمي . اذ يمكن للنفقات الرأسمالية التي تستهدف المضاربة وتتسم بالتقلب أن تكون مصدراً رئيسياً لعدم الاستقرار الاقتصادي على المستوى العالمي . وله أيضا عواقب سياسية هامة في عالم منقسم الى دول متنافسة . فهو يؤدي الى قيام علاقات تبعية , كما أنه مصدر هام للنفوذ بين الأمم . ورغم ان العلاقات التجارية والنقدية يمكن أن تمس بالاقتصاد أيضا فان الاستثمارات والمساعدات والقروض الأجنبية تميل بصورة أكبر الى خلق علاقات رئيس ومرؤوس أو علاقات تبعية , وكثيرا ما أثارت الاستثمارات الخارجية والتمويل الدولي المشاعر السياسية والقومية .
أن التمويل الدولي وممارست القوى المهيمنة لنفوذها على الشؤون الاقتصادية والسياسية الدولية أمران مرتبطان بصورة وثيقة . فالقوى المهيمنة هي الجهة التي تدير النظام الدولي , وهي المستفيد الأساسي من هذا النظام , وفي الوقت نفسه فهي المصدر الأول لرأس المال بالنسبة لإقتصاديات الدول النامية , وعملتها هي أساس العلاقات المالية على مستوى العالم . فاذا نشأت أزمة مالية , فان القوى المهيمنة هي الممثل الوحيد الذي بوسعه أن يلعب دور ما أطلق عليه " مقرض الملاذ الاخير " وهو الذي يستطيع أن يتخذ الاجراء اللازم للحد من التهديد الذي يواجهه النظام .
كانت بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر هي التي تتولى هذه المسؤولية المتمثلة بادارة الأزمات المالية والتغلب عليها , ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تولت الولايات المتحدة ادارة النظام المالي العالمي . لقد كانت السيطرة الأمريكية على التمويل الدولي عاملاً حاسماً في محافظة الولايات المتحدة على مركزها السياسي العالمي وعلى رخائها الداخلي في الوقت ذاته . ولولا دورها المحوري في النظام العالمي الدولي لما كان بوسع الولايات المتحدة أن تخوض غمار صراعين كبيرين في أسيا , وأن تحافظ على مركز قوى لنفسها في اوروبا الغربية , وأن تتحمل أعباء اقامة بنية دفاعية كبيرة خلال ثمانينيات القرن العشرين وحتى أيامنا هذه , دون انخفاض جلي في مستوى معيشة الأمريكيين اذ من خلال استغلالها لسيطرتها على الشؤون المالية على مستوى العالم تمكنت الولايات المتحدة من تغطية نفقات موقعها المهيمن , والمحافظة على رخاء داخلي زائف , والتغطية على عواقب تراجعها الاقتصادي والسياسي النسبي , وكان من نتائجه الركود التضخمي الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي منذ بداية العقد السابع من القرن الماضي وحتى أيامنا هذه , بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن اتفاقية بريتون وودز من الأخذ بحرية التجارة ونظام نقدي مستقر بين الدول .
كما شهدت فترة ما بعد الحرب من تاريخ التمويل الدولي قيام وكالات المساعدات متعددة الأطراف , فالبنك الدولي , وبنوك التنمية الاقليمية , وصندوق النقد الدولي , ومصارف التنمية متعددة الأطراف هي أكبر مصدر للمساعدات الرسمية للدول النامية , كما أنها تقدم لها المشورة الخاصة بسياسة التنمية . كانت الولايات المتحدة أكبر مساهم في هذه المصاريف , فقد تراجعت حصتها بصورة نسبية ومطلقة على السواء خلال ثمانينيات القرن العشرين . وساهمت البلدان الأخرى بخلاف الولايات المتحدة بجزء كبير من اجمالي موارد بنوك التنمية متعددة الأطراف .
وتمثل السيطرة على الوكالات المقرضة وعلى الهدف النهائي منها جوهر خلاف رئيس آخر . فقد كانت احدى القضايا الهامة التي طرحت خلال مؤتمر الأمم المتحدة حول المفاوضات العالمية في قمة الشمال والجنوب , والذي عقد في مدينة كانكون المكسيكية عام 1981هي مسألة السيطرة على مصارف التنمية متعددة الأطراف وعلى الاتفاقية بشأن التعريفات الجمركية والتجارة ( الغات ) وصندوق النقد الدولي . وتم تقديم اقتراح يقضي بأن توكل هذه السيطرة الى الجمعية العامة للأمم المتحدة , حيث تتمتع الدول الأقل نمواً بالأغلبية , وبامكانها بذلك أن تغير من السياسات الخاصة في المشاكل التي تواجهها , مثل فرض الشروط والقروض الميسرة وغيرها, وطالب اقتراح آخر بقيام صندوق النقد الدولي بزيادة السيولة العالمية من خلال اصدار حقوق السحب الخاصة وتوزيع الأموال على تلك الدول الأكثر حاجة اليها . ولم يكن من المفاجىء أن الولايات المتحدة وبلدان متقدمة اخرى ما برحت تعارض بشدة نقل هذه المؤسسات الاقتصادية الى سلطة الجمعية العامة .
وتتجلى القضية الخلافية الأساسية ما بين الدول المتقدمة والدول الأقل نمواً في تحديد الغاية من المنظمات الاقتصادية الدولية والجهة التي تسيطر عليها . وترى البلدان المتقدمة أن الغاية من المساعدات الرسمية احادية الجانب ومتعددة الأطراف على السواء هي مساعدة الدول الأقل نمواً على الوصول الى السوق , ولذا فان سياسة المساعدات يجب أن تخضع لمعايير نظام السوق . في حين أن الدول الأقل نمواً تعطي الأولوية القصوى للتنمية الاقتصادية والاستقلال السياسي .
أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1985 بلدا مدينا وحلت اليابان محلها بصفتها الدولة الدائنة الأولى في العالم , وقوبل هذا التحول في مركز الولايات المتحدة بالترحيب , الا أنه كان بمثابة النتيجة الحتمية للسياسات المفرطة والادارة السيئة للنظم النقدية والمالية الدولية التي اعتمدتها الولايات المتحدة منذ تصعيدها الحرب في فيتنام واطلاقها برنامج " المجتمع العظيم " في وقت واحد , اذ في حين كانت الولايات المتحدة تدير النظام المالي , كانت تستخدم هذا النظام لمصلحتها الوطنية الخاصة بحيث وضعت بذلك اساس المشاكل التي واجهها النظام المالي العالمي خلال ثمانينيات القرن العشرين وحتى أيامنا هذه .
وعلى الرغم من استمرار مشاكل الاشتراط والمساعدات الميسرة , ومشاكل تحديد غايات المؤسسات الدولية والجهة التي يجب أن تسيطر عليها , فقد برزت قضايا أكثر ارباكا مع قيام سوق الأرصدة الدولارية الاروبية , ومع الاشتعال المفاجيء لفتيل أزمة الديون الدولية , نتيجة الى ضعف مركز القيادة الدولي . وهذا ما نتحدث عنه في المقالات القادمة .