تقود إدارة الرئيس الأميركي الحالي جون بايدن، برنامجا متخصصا لمواجهة صعود الصين الدولي، وتحديداً في مجال تكنولوجيا المعلومات، ولا سيما في الجانب الصلب (الهاردوير) والرقائق، وتأخذ هذه الحرب أوجها عدة، تعكس نهاية عصر ادّعاء حرية التجارة والليبرالية.
أول أشكال الحرب منع وصول تكنولوجيا أساسية للصناعات الصينية، وثانياً الاستثمار أميركياً في هذه الصناعة لضمان تفوقها عالمياً، وثالثاً دفع حلفائها الدوليين، ليس لوقف تصدير هذه التكنولوجيا للصين وحسب، بل ولنقل هذه الصناعة إلى الأراضي الأميركية. وفي المقابل، ترد الصين باستثمارات مضادة في هذا المجال، وهناك معلومات عن تجسس صيني للحصول على هذه التقنية.
الرقائق أو الشرائح الالكترونية (chips) وأشباه الموصّلات (semiconductors) هي مكونات أساسية في الهواتف الخلوية، والحواسيب، وتدخل في كل الصناعات الحديثة تقريباً من عسكرية ومدنية؛ من طائرات ودبابات وسيارات، وفي الذكاء الصناعي.
أول خطط الحرب الأميركية، هي تقديم تمويل حكومي لمشاريع بحث وتصنيع، ممولة في الولايات المتحدة الأميركية، وعلى مدار الأشهر الثمانية عشر الفائتة، أعلنت شركات أميركية استثمارات بمبالغ تصل الى 200 مليار دولار، وذلك بحسب صحيفة نيويورك تايمز، (و280 مليار بحسب موقع انسايدر)، بهدف فتح مصانع جديدة لهذه الشرائح في الولايات المتحدة، وتسهم إدارة بايدن بمبلغ 76 مليار دولار على شكل منح، وإعفاءات ضريبية، وآليات دعم أخرى لهذه المشاريع، ما يجعل هذا الاستثمار الحكومي الأميركي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، عندما مولت الحكومة الأميركية حينها صناعات ألمنيوم، ومطاط، وسفن، وأنابيب. وقال بايدن نفسه «إن مثل هذا الاستثمار مهم لكسب المنافسة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين».
ثاني خطط الحرب الأميركية، دفع شركات من تايوان لفتح منشآت ومصانع في الولايات المتحدة، ونقلها من تايوان القريبة من الصين، في إشارة للتخوف من سيناريو حرب أو غزو صيني في تايوان، وفي الوقت الراهن، تعد تايوان المصدر الأول عالمياً لتصنيع هذه الشرائح، وهناك أنواع شرائح معقدة ومتطورة جداً لا تصنّعها حالياً إلا تايوان.
ثالث الخطط الأميركية، الطلب من شركات كبرى أميركية مثل «أبل» للخروج من الصين، وبالفعل بدأت شركات مثل «أبل» بنقل تصنيع هواتفها من الصين إلى الهند، وتحديداً إنتاج هاتفها الجديد، «آيفون 14» الذي سينتح من الهند، ومن المتوقع أن تحصل فيتنام على جزء من مصانع «أبل».
رابع الخطط، أقرت إدارة بايدن في شهر آب (أغسطس) الفائت، قانوناً يمنع تصدير تكنولوجيا ومعدات لصناعة «أشباه موصلات» أساسية لصناعة الأجهزة الالكترونية الحديثة إلى الصين، وذلك لأسباب منها تخصيص هذه القطع للصناعة الأميركية، وبهدف «خنق» الصناعة الصينية.
خامساً، يتم الضغط أميركياً على حلفائها لوقف تصدير هذه الرقائق وأشباه الموصلات للصين، وبالفعل، وبعد أشهر من الضغط، استجابت هولندا واليابان نهاية الشهر الفائت (كانون الثاني/ يناير 2023) للمطالب الأميركية، ونقلت صحف عالمية مرموقة القرارات الهولندية اليابانية، رغم تفادي حكومات البلدين التصريح رسمياً بتفاصيل حول الموضوع، ويتوقع أنه خلال أشهر سيتوقف البلدان عن تصدير هذه التكنولوجيا للصين، وإن كان هناك سؤال حيوي هو: من سيعوض شركات البلدين عن خسائر وقف صادراتها؟
كانت الولايات المتحدة تنتج العام 1990 نحو 37 بالمائة من إنتاج العالم من هذه الرقائق، لتنخفض النسبة الى 12 بالمائة العام 2020، والآن تريد رفع هذه النسبة، وحرمان الصين من هذه التكنولوجيا. وفي المقابل، ترد الصين بخطوات أهمها؛ أولاً، تقديم شكوى لمنظمة التجارة العالمية ضد السلوك الأميركي، ثانياً خطة إنفاق حكومي قيمتها 143 مليار دولار لدعم صناعة الرقائق وأشباه الموصلات، وثالثاً، أعلنت شركة ASML الهولندية وإحدى أهم الشركات التي تصدر هذه القطع للصين، قبل أيام، أن موظفا سابقا في الصين سرق معلومات تكنولوجية، وهو ما يشير ربما للتجسس الصناعي الممكن قريباً كجزء من الرد الصيني.
حرب الرقائق، من بين أمور أخرى، تعني أن عصر ادّعاء حرية التجارة والليبرالية يتراجع جداً، ويعود الآن عصر الحروب الاقتصادية، وعصر التحالفات العدائية.كما تشير هذه الحرب إلى أنّ إدارة بايدن تركز اهتمامها على الصين كهدف تالٍ في تثبيت الزعامة الأميركية للعالم، وأن صناعة المعلومات والذكاء الصناعي جوهرية في هذه الحرب.
*أستاذ مشارك في الدراسات الدولية- جامعة قطر