يقول إسرائيلي إن الصراع الجاري في الدولة هو نتيجة أن "فاسدين ومتعصبين (فاناتيم)" التقوا في سدة الحكم. التقت مصالحهم بإجراء التعديلات لتطويع القانون والنظام. فإذا أراد بنيامين نتنياهو تطويع المحكمة العليا والقضاء نتيجة محاكماته بالفساد، فإن اليمين القومي الديني المتعصب يريد تطويع النظام والقانون لأيديولوجيته ومشاريعه.
نظرية "الفاسدون والمتعصبون" صحيحة، لكنها تفسر التوقيت ولا تفسر الأرضية المجتمعية التي يجري عليها الصراع في إسرائيل.
والأرضية المجتمعية لخّصها الرئيس الإسرائيلي السابق، الليكودي رؤوفين ريفلين، في مقابلة صحافية بتحذيره من "الثأر" أو "الانتقام". وكذلك حذّر منها صاحب نظرية "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين، اليميني المحافظ ميخا غودمان. تحذيرات الاثنين من الثأر مختلفة قليلا، لكنها مرتبطة.
حذّر ريفلين من ثأر القوى اليمينية الصاعدة، سياسيًا واجتماعيًا، من النخب العلمانية الليبرالية التقليدية الحالية التي هيمنت على مؤسسات الدولة والمجتمع منذ تأسيسها، أي النخب الأشكنازية. يحذر ريفلين من تصفية حسابات تاريخية قد تغير شكل النظام القائم، رغم أنه كان من أبرز المهاجمين للمحكمة العليا في التسعينيات، والعقد الأول من الألفية الحالية، ويؤيد إجراء تعديلات قانونية تتعلق بمكانة المحكمة العليا، لكن دون الإخلال بتوازن فصل السلطات.
أما غودمان، فالثأر الذي يعنيه هو الثأر من "الثورة الدستورية" التي أجراها رئيس المحكمة العليا السابق، أهارون باراك، مطلع التسعينيات، بثورة دستورية متسرعة وراديكالية ودون توافق، لا تؤدي إلى تغيير دستوري طويل الأمد، وتنعكس على تغيير في النظام كما هو مطلوب، بل قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في النظام السياسي، بحيث تلغى مع صعود المعسكر الآخر للحكم وهلمّ جرًّا.
ويخلص إلى أن الفكر اليميني المحافظ هدفه حماية المستقبل، فيما الثأر هو محاولة تسوية أو تصحيح غبن حصل في الماضي.
من صراع على الحُكم إلى صراع على النظام
الصراع الجاري في إسرائيل هو صراع على النظام وشكله، وليس مجرد صراع على الحكم، ويتجاوز المعسكرات الانتخابية والانتماءات الحزبية، بل إن جذوره اجتماعية، تتعلق بالتدين والإثنية والمكانة الاقتصادية.
استثمر نتنياهو منذ توليه رئاسة الحكومة لأول مرة في العام 1996، التحولات الديمغرافية وتبعاتها الاجتماعية، لإعلان الحرب على النخب الأشكنازية المهيمنة. ففي العقود الأخيرة، ارتفعت نسبة اليهود الشرقيين في المجتمع الإسرائيلي، وكذلك اليهود الأرثوذكس المتزمتين (حريديون)، وحتى نسبة العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وأتباع الصهيونية الدينية والمستوطنين، ما أفقد قدرة أي فئة أو طرف، فرض هيمنته على المجتمع ومؤسسات الدولة كما كان منذ تأسيس إسرائيل، بحسب باحثين إسرائيليين.
استثمر نتنياهو ذلك من خلال استهداف النخب الأكاديمية والقضائية والإعلامية، تحت ذريعة دمقرطة ولبرلة مراكز القوى في الدولة، وصولا إلى بناء تحالف سياسي عريض مع كل الفئات التي كانت تعتبَر مهمشة ومضطهدة سياسيا واجتماعيا من دولة الأشكناز والكيبوتسات، من شرقيين وحريديين ومستوطنين، تجمعهم نسبة عالية من التدين أو المحافظة الاجتماعية ("تقليديون")، مكّنه ذلك أخيرًا من رئاسة الحكومة بدعم 64 عضو كنيست وهي الأكثر تدينًا، وهي عملية سياسية واجتماعية استغرقت نحو عقدين ونصف العقد، لتشعر هذه القوى بأن من حقها اليوم إجراء التعديلات اللازمة على النظام السياسي، لأنها تحظى بأغلبية ديمقراطية، وقاعدة مجتمعية عريضة تمثل أكثر من نصف المواطنين اليهود.
لقد تزامن صعود نتنياهو للحكم في أواسط التسعينيات، مع إجراء انتخابات مباشرة لرئيس للحكومة لأول مرة، وهو ما عزز من قوة الأحزاب الصغيرة التي تمثل شرائح مجتمعية محددة وتمارس سياسات الهوية الإثنية والدينية، مثل "شاس" والشرقيين، وإضعاف الأحزاب الرئيسية العلمانية الكبرى مثل العمل والليكود. وعلى الرغم من إلغاء الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة، إلا أنه لم يعد بالإمكان إعادة الخريطة الحزبية إلى الوراء، وعلى الرغم من رفع نسبة الحسم في انتخابات الكنيست، وهو ما عزز من التصويت على أساس الانتماء لجماعة محددة أو الهوية الجماعية، الدينية أو الإثنية أو الاستيطانية مثلا، على حساب التصويت من منطلق مصلحي - نفعي فردي وقناعات فردية محافظة أو ليبرالية أو علمانية، يسارية أو يمينية.
وأظهر بحث للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية عن علاقة التدين بالمواقف اليمينية وأنماط التصويت بين اليهود، شمل 21 استطلاعا أجراها المعهد لنحو 11 ألف و500 مصوت يهودي في الانتخابات الـ24 للكنيست في آذار/ مارس عام 2021، أن 89 في المئة من الحريديين المشاركين في البحث، قالوا إنهم صوتوا لـ"شاش" و"يهدوت هتوراة"، والبقية منهم صوتوا لليكود و"الصهونية الدينية". وقال نحو الثلثين ممن عرفوا أنفسهم بالمحافظين - التقليديين (وهم غالبا من الشرقيين) إنهم صوتوا لليكود و"يمينا" و"الصهيونية الدينية" والأحزاب الحريدية، وأقل من الثلث قالوا إنهم صوتوا لأحزاب "الوسط - اليسار".اليمين الحاكم اليوم ليس لونًا واحدًا، بل تتنوع فيه التوجهات ما بين التعصب القومي الديني، والتوجه الديمقراطي المحافظ، والعلماني الليبرالي اقتصاديًا، والمعادي للمرأة والحداثة، لكنه يجمِع على مسألة الاستيطان والتهويد والسيطرة على كل البلاد، وعدم التسوية مع الفلسطينيين، وكذلك على علاقة الدين بالدولة، وعدم إمكانية فصلهما، وحتى الجهات التي تؤيد حقوق الفرد الليبرالية، تخضع هذه الحقوق ليهودية الدولة.
ديمقراطيّة غير ليبراليّة
مشكلة اليمين الحاكم مع الديمقراطية بأنها ليبرالية، فالأولى تضمن حكم الأغلبية وهي الجماعة اليهودية، فيما الثانية تحمي الفرد من طغيان حكم الأغلبية، أي تقوّض حكم الأغلبية اليهودية. لذا، إنّ المحكمة العليا تمثّل وفق نظرهم الشقّ الثاني، الليبرالي، بادعاء أن القضاة غير منتخبين من الشعب أو ممثلي الشعب، ولا يمثلون كل شرائح الشعب، بل هم نخبة فوق القانون، ولا يخضعون لأي سلطة رقابية حقيقية، فيما يخضع ممثلو الشعب، أي البرلمان، لتدخّل المحكمة العليا التي بمقدورها إلغاء القوانين، أو قرارات حكومية إدارية، وحتى إقالة وزراء كما حصل مع أرييه درعي مؤخرًا.الحديث عن دمقرطة مراكز القوى بما فيها المحكمة العليا، ليس بدافع تحقيق أكبر قدر من المساواة والعدالة، بل إن مجموعة سياسية محددة، هي اليمين الحاكم، ترى أن لديها الأغلبية السياسية والمجتمعية، تطالب بـ"دمقرطة" هذه المراكز، أي "تمثيل متساوٍ" (ديمقراطي) لشرائح المجتمع المختلفة، لأنها مدركة مسبقًا بأنها تحظى بالأغلبية في أوساط هذه الشرائح. أي هو مطلب مساواتي ديمقراطي بالشكل، ولكن هدفه طغيان جماعات محددة على الفرد، أو طغيان وهيمنة جماعات محددة على هذه المراكز باسم الأغلبية السياسية والمجتمعية، دون علاقة للقيم التي تحملها هذه الجماعات، وهي قيم إما محافظة اجتماعيًا، أو متعصبة قوميًا ودينيًا، وغير ديمقراطية عمومًا.
تقدميّون رجعيّون... ما موقع العرب مِن أو في الصراع؟
ليست المظاهرات الضخمة في تل أبيب مؤخرًا، وهي ملفتة بحجمها، مظاهرات احتجاجية على نتائج الانتخابات الأخيرة، أو على تعديلات دستورية فقط، بل تعكس صدعًا اجتماعيًا أو مجتمعيًا في إسرائيل، قائما منذ سنوات، بحيث باتت شرائح واسعة كانت الأغلبية مرّة، تشعر بأنها تخسر الدولة ونظامها السياسي والاجتماعي العلماني الليبرالي الصهيوني، تحديدًا بعد حسم اليمين للانتخابات الأخيرة بشكل واضح.
لم يعد المجتمع الإسرائيلي متناغما أو متشابها كما كان في السابق. فعلى ما يبدو، لم تصمد سياسة "بوْتَقة الصهر" المجتمعية أمام التحولات الديمغرافية الاجتماعية، التي هي أيضًا تحولات في القيم والأفكار والتوجهات السياسية التي تحملها شرائح المجتمع، سواء في شكل التدين أو العلمانية أو الديمقراطية والليبرالية، وينعكس ذلك في أنماط الحياة، وفي الحيز العام وحدوده، وغيرها.
وانضمام قطاعات مختلفة للمظاهرات، مثل قادة صناعة الهايتك الإسرائيلية، وكبرى مكاتب المحاماة، وأطباء، يؤكد أن هناك قلقًا حقيقيًا على مصير النظام السياسي في إسرائيل، قد يحوّلها لدولة منبوذة في الغرب، ويخسِرها الاستثمارات لدرجة المقاطعة من قبل الشركات الكبرى، نتيجة عدم الاستقرار الداخلي.ومطالب المتظاهرين ليست إصلاحية أو ثورية أو حتى تقدمية، بل هي مطالب بالمحافظة على الوضع القائم في النظام السياسي؛ نظام الفوقية اليهودية، مع تجاهل تام لممارسات هذا النظام على نصف سكان هذه البلاد من غير اليهود، أي السكان الأصليين وأصحاب البلاد، والسيطرة على مصيرهم بالقوة، والقتل اليومي، والتهجير، وغيرها.
والمحكمة العليا "الليبرالية" بقيادة باراك، قامت بشرعنة هذه الممارسات والفوقية اليهودية، وتبييضها أمام الرأي العام الغربي، ووفرت الحماية للجنود من الملاحقة الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب. وليبراليتها تنحصر أساسًا في حسم الخلافات داخل نظام الفوقية اليهودية، وتمنع طغيان الأغلبية على الفرد (اليهودي غالبًا).
قال القاضي باراك في محاضرة في المؤتمر العالمي للعلوم اليهودية في العام 1997، إن جمع شتات اليهود والاستيطان هي من قيم الأساسية وعلى رأس سلم أولويات إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. لكنه يضيف بشكل قاطع في عدة بنود، أن "دولة يهودية، هي دولة تتبنى قيم الحرية والعدالة والاستقامة والسلام من إرث إسرائيل. دولة يهودية هي دولة تستقي من التقاليد الدينية، والتوراة هي الكتاب الرئيسي بين كتبها، أنبياء إسرائيل هم أساس أخلاقيتها. دولة يهودية هي دولة تلعب فيها الشريعة اليهودية دورًا مهمًا، وتقوم فيها قوانين الزواج والطلاق بموجب قانون التوراة. دولة يهودية هي دولة تعتبر قيم توراة إسرائيل والتراث اليهودي وقيم الشريعة اليهودية من بين قيمها الأساسية". (مقتبس لدى عزمي بشارة في كتاب "من يهودية الدولة حتى شارون – دراسة في تناقُض الديمقراطية الإسرائيلية، مؤسسة "مواطن"، 2005). والحديث عن التوراة والتقاليد وإرث إسرائيل والأنبياء وقيم الشريعة اليهودية تبدو اليوم كأنها محصورة بمتطرفين مثل سموتريتش أو بن غفير، لكن قائلها هو صاحب "الثورة الدستورية" الليبرالية، وجاءت عليها "وثيقة الاستقلال".
وتعريفات باراك المذكورة، هي إعادة تدوير للنص "وثيقة الاستقلال" الإسرائيلية، وينص قانون أساس القضاء (1980) على أنه في حال وجود ثغرة قانونية استثنائية، فإن المرجعية القانونية لسد الثغرة تكون قيَم الشريعة اليهودية.
لكن ما فعله باراك وأثار حفيظة قضاة في المحكمة منذ أواسط التسعينيات، بأنه حاول اعتماد القيم الليبرالية في مواجهة الثغرات الاستثنائية من خلال قوانين أساس (شبه دستورية) تتعلق بحقوق الفرد والمواطن، إلا أنه أبقى على فوقية يهودية الدولة على ديمقراطيتها. ولم تكن مساعي باراك هذه بدوافع ليبرالية صرفة، بل كانت بهدف الدفاع عن سمعة إسرائيل دوليًا، خصوصًا في ظل الصراع مع الفلسطينيين، لكنه حصرها في المواطنين الإسرائيليين فقط، وأخضعها لتعريف إسرائيل كدولة يهودية أو دولة الشعب اليهودي أولا. وعلى هذا الأساس شرعت وأجازت المحكمة العليا قانون القومية العنصري، وحللت ممارسات الاحتلال في الضفة وغزة، من الاستيطان والمصادرة، حتى منع لم شمل العائلات والاعتقالات الإدارية وغيرها.
إذًا، المظاهرات في تل أبيب هدفها الحفاظ على الوضع القائم، أو كما سماه المؤرخ الإسرائيلي شلومو زاند، "الإثنوقراطية الليبرالية"، ومن ذلك يُشتقّ السؤال: ما موقع المواطنين العرب ِمن وفي هذا الصراع، بين "الإثنوقراطية" و"الإثنوقراطية الليبرالية"؟
ليست مسألة المشاركة العربية، الفردية أو الحزبية -وهي قليلة في كل الأحوال- في هذه المظاهرات، مسألة حرام أو حلال، ولكنها تدفع إلى السؤال: كيف لعربيّ يرى بنفسه تقدميًا أو ثوريًا، أن يدعم مظاهرات تدعو للمحافظة على الوضع القائم للفوقية اليهودية، حتى لو كانت ليبرالية وعلمانية إلا أنها إثنوقراطية؟
يتجاوز السؤال "التكتيك الانتخابي"، أو خطورة الحكومة الجديدة على الفلسطينيين عمومًا، إنه يتعلق بالهوية والشخصية السياسية. فمن الغرابة أن يقبل من يرى نفسه تقدميًا، الخضوع لمظاهرات سقفها "يهودية وديمقراطية"، فلا عتب على منصور عباس بذلك، فهو يعلن استسلامه وخضوعه لدولة اليهود في كل مناسبة، لكن الغريب العجيب أن يكون المرء تقدميًا ورجعيًا في الآن ذاته (لا علاقة للتشاؤل بذلك)، "يناضل" تحت سقف المطالبة المحافظة (محافظ) على الفوقية اليهودية "الليبرالية"، ويريد أن يكون شريكًا في ذلك، ويعتب على المنظمين تهميشه أو تهميش كلمته أو خطابه.
صحيح أن العرب ضد تسييس القضاء مثلا، وضد سيطرة اليمين الفاشي على المحكمة العليا، لكن ليس مقابل القبول بشروط الصراع الداخلي الصهيوني، أو الخضوع لسقف "النضال" من أجل المحافظة على "اليهودية والديمقراطية" أو "الإثنوقراطية الليبرالية".
يبقى المطلوب منا عربيًا، التنظُّم والحراك الشعبي، بدل الالتحاق بركب الآخرين، في صراعات يشعلها "فاسدون ومتعصبون".