كانت مباراة النهائي تحدٍ بين نجمين فعليا وليس رمزيا، فقد سجل ميسي هدفين، الأول بركلة جزاء والثالث خلال الوقت الإضافي، بينما سجل مبابي الأهداف الثلاثة لفرنسا. اللافت في مبابي، هذا اللاعب ذو الأصول الإفريقية من أب كاميروني وأم جزائرية، أنه قد تولّى مهمة إحياء المباراة، وردّ منتخب بلاده من فم الهزيمة لوحده حرفيا، إذ سجل هدفين في ظرف دقيقتين من دقائق المباراة الأخيرة. ولما تفوقت الأرجنتين بهدف ثالث خلال التمديد، كان مبابي هو من استرجع حلم الفرنسيين في محاولة للحفاظ على البطولة بهدف ثالث أحرزه من ركلة جزاء هو صانعها، إلا أن الأرجنتين في الأخير كانت على موعدٍ مع تاريخها.
كان لنجمي الفريقين، كل ذلك الأثر المتصل بتلك النشوة والإثارة التي منحتها المباراة لمشاهديها إلى حد الهوس والاصطفاف عليها. مباراة على البطولة صنعها بطلان، فمن حقق فوز الأرجنتين هو بطلها في الأخير، كما حاول بطل فرنسا منع هزيمتها حتى آخر رمق. وفي هذا تجاوز لفكرة عمل الفريق والتعاون - الجماعي دون إلغائهما. ولكنه تجاوز يُعيد للكرة وعالمها "السحر"، بعد أن جرى نزعه عنها في ظل رأسمالة لعبة كرة القدم، وتسليعها الجاري في العقود الأخيرة.
عموما، هذا الحضور المكثف لفكرة النجم - البطل لدى كِلا الفريقين خلال نهائي كأس العالم، فيه ما يؤكد أن الفريق أحيانا هو امتداد لبطله وليس بديلا له، ما يعني أن الفريق يحتاج إلى بطل كي يكون. وهذه فكرة يمكن إثباتها، إذا ما عملنا على ترحيلها إلى حقول أخرى غير كرة القدم، مثل السياسة والاجتماع.
في العنصريّة والتماهي معها
بعد خسارة فرنسا البطولة، تبين أن أكثر من لاعب من أصل أفريقي قد تعرض للتنمر بتعليقات ذات مسوح عنصرية، ما حدا بهم إغلاق التعليق على حساباتهم على شبكات التواصل الاجتماعي. فإذا فاز المنتخب الفرنسي قالوا: تحيا فرنسا، وإذا ما أخفق المنتخب، قالوا: خذلنا الأفارقة.
ليس من عنصرية واضحة بمثل هذا الوضوح، هذا صحيح، خصوصا في سياق تفاقم مظاهر العنصرية الاجتماعية في أوروبا وفرنسا تحديدا، على المهاجرين إليها من دول الشرق الأوسط وإفريقيا تحديدا. غير أن هناك تماهيا عنصريا آخر، ظهر قبل أن يخسر منتخب فرنسا البطوله ويُقرع لاعبوه الأفارقة من قِبل بعض الفرنسيين البيض.
كان يعيب بعضنا على منتخب فرنسا أن معظم لاعبيه من غير الفرنسيين، في إشارة إلى ذوي البشرة السوداء من أصول إفريقية فيه، بينما يُشاد بالأرجنتين الفريق الذي كل لاعبيه من أصل أرجنتيني "قُح" كما يقال في عاميتنا الدارجة، باعتبار ذلك امتيازا للأرجنتينيين على الفرنسيين. لكن ما علينا تذكره نحن الرازحون تحت نير العنصرية والإقصاء، هو أن تشكيلة الأرجنتين الـ"مغسولة" من ذوي البشرة السوداء مردّها إلى وحشية عِرقية - عنصرية جرت فيها، ليست في إقصاء السود إنما في إبادتهم عن بِكرة أبيهم، كي يظل الأرجنتينيون "أنقياء أقحاح"، مثلما يحب بعضنا أن يراهم.
أما في فرنسا، فقد تمرحلت العنصرية بصور مختلفة، وتحديدا على مستوى كرة القدم وشكل تشكيلة منتخبها. يعود ذلك إلى ما بعد مونديال سنة 1994
الذي نظمته الولايات المتحدة الأميركية، حيث لم تتأهل فرنسا إليه أساسا، بعد خساراتها أمام منتخب بلغاريا في حينه. إذا ما عُدنا إلى ألبومات صور منتخب فرنسا حتى عام 1994، سنرى أنه كان مشكَّلا من أبناء الفرنسيين المسيحيين البيض، وبالكاد نجد لاعبا واحدا من أصل إفريقي، أو غير فرنسي.
بعد عام 1994، قررت فرنسا فتح أبواب فريق منتخبها أمام أبناء المهاجرين الأفارقة الذين يتمتعون بأجساد قوية ولياقة بدنية عالية ويحملون الجنسية الفرنسية في الوقت نفسه، في محاولة تخلّت فيها فرنسا رسميًّا عن شرطها التاريخي العنصري في من يمثل الأمة الفرنسية في المحافل الرياضية، والكروية منها خصوصا.
بعد أربع سنوات،أي في سنة 1998، فازت فرنسا ولأول مرة بلقب بطولة كأس العالم، الذي نظّمته فرنسا ذاتها. كان نجم حكاية فوز فرنسا ولقبها الأول، لاعبا من أصل جزائري هو زين الدين زيدان. من منّا لا يتذكر شعار فرنسا الشهير بعد تحقيقها اللقب "ميرسي زيزو". استطاعت فرنسا في ظرف عقدين من الزمن، الوصول أربع مرات لنهائي بطولة كأس العالم، كان آخرها في مونديال قطر، وقد حققت فرنسا اللقب مرتين في بطولتَي عامَي 1998 و2018، بينما لم يصل المنتخب الفرنسي إلى نهائي كأس العالم في تاريخه، ولو لمرة واحدة قبل عام 1998.
يحمل اليوم بعض الفرنسيين، بعضَ لاعبي منتخبهم خسارة البطولة، لأنهم أفارقة ولأنهم مهاجرون. هم فرنسيون في الفوز، ومُهاجرون وأفارقة في الخسارة.
كان تمثيل المهاجرين وأبنائهم في تشكيل منتخب فرنسا منذ أواخر القرن الماضي، تخليا عن عنصرية مشروطة، بعنصرية وجوب التفوق والفوز كي يستحق المهاجر فرنسيته. يُعيب بعضنا على منتخب فرنسا تفوقه بأفارقته، كما يُعيب بعض الفرنسيين عليه خسارته بأفارقته أيضا، وفي كلا الحالين الموقف عنصري...