قفص عصافيرٍ، كُلُّها، مَيّتة.
لكنها ما زالت تخططُ لأن تصحو غداً وتغسل ملابسها، وملابس الصيّاد!
مخزن قديم مكتظ بالآلات الموسيقية المُحطّمة، وبمغنّين قتلى وسيمين وضاحكين.
هكذا فكّرتُ، حين فكّرتُ اليوم للمرّة الأولى: كيف هو شكلُ "غزّة”؟
بحرٌ أعمى، يقوده الفتيان من يده إلى عمله!
أمّهات يبحثن عن أبنائهن، ويدعين سرّاً ألا يجدنهم في نشرة الأخبار.
ولد في الستين من العمر يستشهدُ من باب الخجل، أو لفرط الملل، أو لتعجب به، وتحبُّهُ ابنة الجيران، أو غيرة من أقارب زوجته.
شعب كامل مسجونٌ في رغبة السجين بأن يصير السجّان!
مقبرة فاخرة من الرخام. تجاورها مقبرة من ألواح "الزينكو” الرديء. وككلّ الموتى يحظون بسورة "القرآن” نفسها!
جمهور حاشدٌ محبوس في "لوغو” الجماعة، وفي غرف التحقيق، وفي حكمة الأمر بالمعروف.. أمّا المنكر فتحدده مصلحة الفصيل!
والناس حين يخرجون يرون ظِلالهم على الجدران: سوداء، ومريضةً، وتحملُ ورداً لأحدٍ ما..
كنتُ أريدُ أن أسلّم على هذه المدينة المجازية باليد ولو مرةً واحدةً وأخيرة.
المدينة التي للحقيقة لم أتأكد بنفسي بعد من وجودها خارج القصائد والجنازات و”صندوق التلفزيون”.
ليس ثمة من يؤكد، أو ما يؤكد لي، أنا، أن ثمة "غزة” فعلاً، ما لم أحُكّها بيدي، كما يحكُّ المريض جرحاً ناشفاً، أو كما يُسلّم باليد على شقيقه المغترب منذ خمسين عاماً، مُرتاباً من هذا التشابه بينهما في الأنف ونبرة اللهجة القديمة.
كل ما نسمعه دائماً عن الشقيق المسافر مكتظ بالمبالغات والطهرانية وعمليات التجميل التي تجعله أجمل إخوته وأكثرهم وسامةً.
وأنا لا أصدّقُ أن "غزة”؛ هذه الحكاية التي تقيم في قطاعٍ منسوج بعناية مذيعي الأخبار، هي أيضاً مدينة فيها امرأةٌ تصحو من النوم بشعر منكوش وتذهب الى شغلها في باصٍ قديم تفكر بأن فستانها صار ضيّقاً عليها، أو بإظفرها المكسور!
وأن رجلاً يجلسُ في محلّه الآن يكيدُ لجاره في المحلّ الثاني؛ كما يحدث للبشر الآخرين تماماً.
وأن تاجر عقار يفاوض الآن على بيع شقّة، وموظفاً في مصلحة المياه يؤلمه ظهره، وفتاة تخطط للإيقاع برجل، وشاباً يحاول إصلاح مسجّل سيارته، وأن "يسري درويش” الذي كان شاباً رياضياً وسيماً حين ودّعته في مكناس سنة 1986 صار كهلاً يُفضّل ربطات العنق على الجينز!
لكنني، مثل جيل أو جيلين، أو ثلاثة، تربّوا على نشرات الأخبار، وليست بحوزتهم صورة شخصية واحدة مع الشقيق المسافر، أظلُّ أقول لنفسي: هذه المدينة متعاليةٌ وتحب أن ترى نفسها دائماً في "البوسترات”. فأملأ حيطان المنفى الفاخر بصورها، بمختلف مراحل عمرها،.. لأتخلص من هذا الحب "غير المفهوم”!
هذه العلاقة التي لا براهين عليها؛ ولا براهين تدحضها، وعليَّ أن أحملها على ظهري كجثةٍ تنشب فمها في ظهري. جثة لم تمت تماماً، لأنني أنا لم أمت بعد تماماً. ولا أسبقها لأرى وجهها، ولا تسبقني لأعرف طريقنا ؛ تظلُّ خلفي مثل اسم الجدّ؛..
الجدّ الرابع الذي تحمل اسمه دائماً ولا تعرفه وتتمنّى لو أنَّكَ سَلَّمتَ عليه مرة باليد!
لكنها ما زالت تخططُ لأن تصحو غداً وتغسل ملابسها، وملابس الصيّاد!
مخزن قديم مكتظ بالآلات الموسيقية المُحطّمة، وبمغنّين قتلى وسيمين وضاحكين.
هكذا فكّرتُ، حين فكّرتُ اليوم للمرّة الأولى: كيف هو شكلُ "غزّة”؟
بحرٌ أعمى، يقوده الفتيان من يده إلى عمله!
أمّهات يبحثن عن أبنائهن، ويدعين سرّاً ألا يجدنهم في نشرة الأخبار.
ولد في الستين من العمر يستشهدُ من باب الخجل، أو لفرط الملل، أو لتعجب به، وتحبُّهُ ابنة الجيران، أو غيرة من أقارب زوجته.
شعب كامل مسجونٌ في رغبة السجين بأن يصير السجّان!
مقبرة فاخرة من الرخام. تجاورها مقبرة من ألواح "الزينكو” الرديء. وككلّ الموتى يحظون بسورة "القرآن” نفسها!
جمهور حاشدٌ محبوس في "لوغو” الجماعة، وفي غرف التحقيق، وفي حكمة الأمر بالمعروف.. أمّا المنكر فتحدده مصلحة الفصيل!
والناس حين يخرجون يرون ظِلالهم على الجدران: سوداء، ومريضةً، وتحملُ ورداً لأحدٍ ما..
كنتُ أريدُ أن أسلّم على هذه المدينة المجازية باليد ولو مرةً واحدةً وأخيرة.
المدينة التي للحقيقة لم أتأكد بنفسي بعد من وجودها خارج القصائد والجنازات و”صندوق التلفزيون”.
ليس ثمة من يؤكد، أو ما يؤكد لي، أنا، أن ثمة "غزة” فعلاً، ما لم أحُكّها بيدي، كما يحكُّ المريض جرحاً ناشفاً، أو كما يُسلّم باليد على شقيقه المغترب منذ خمسين عاماً، مُرتاباً من هذا التشابه بينهما في الأنف ونبرة اللهجة القديمة.
كل ما نسمعه دائماً عن الشقيق المسافر مكتظ بالمبالغات والطهرانية وعمليات التجميل التي تجعله أجمل إخوته وأكثرهم وسامةً.
وأنا لا أصدّقُ أن "غزة”؛ هذه الحكاية التي تقيم في قطاعٍ منسوج بعناية مذيعي الأخبار، هي أيضاً مدينة فيها امرأةٌ تصحو من النوم بشعر منكوش وتذهب الى شغلها في باصٍ قديم تفكر بأن فستانها صار ضيّقاً عليها، أو بإظفرها المكسور!
وأن رجلاً يجلسُ في محلّه الآن يكيدُ لجاره في المحلّ الثاني؛ كما يحدث للبشر الآخرين تماماً.
وأن تاجر عقار يفاوض الآن على بيع شقّة، وموظفاً في مصلحة المياه يؤلمه ظهره، وفتاة تخطط للإيقاع برجل، وشاباً يحاول إصلاح مسجّل سيارته، وأن "يسري درويش” الذي كان شاباً رياضياً وسيماً حين ودّعته في مكناس سنة 1986 صار كهلاً يُفضّل ربطات العنق على الجينز!
لكنني، مثل جيل أو جيلين، أو ثلاثة، تربّوا على نشرات الأخبار، وليست بحوزتهم صورة شخصية واحدة مع الشقيق المسافر، أظلُّ أقول لنفسي: هذه المدينة متعاليةٌ وتحب أن ترى نفسها دائماً في "البوسترات”. فأملأ حيطان المنفى الفاخر بصورها، بمختلف مراحل عمرها،.. لأتخلص من هذا الحب "غير المفهوم”!
هذه العلاقة التي لا براهين عليها؛ ولا براهين تدحضها، وعليَّ أن أحملها على ظهري كجثةٍ تنشب فمها في ظهري. جثة لم تمت تماماً، لأنني أنا لم أمت بعد تماماً. ولا أسبقها لأرى وجهها، ولا تسبقني لأعرف طريقنا ؛ تظلُّ خلفي مثل اسم الجدّ؛..
الجدّ الرابع الذي تحمل اسمه دائماً ولا تعرفه وتتمنّى لو أنَّكَ سَلَّمتَ عليه مرة باليد!